أزمة دولة في فرنسا… مصدر متاعب لألمانيا والاتحاد الأوروبي

يواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وضعاً حرجاً، بعد اعتذار سيباستيان ليكورنو عن الاستمرار في مهمّته لتشكيل حكومة جديدة، بعد نحو أربعة أسابيع على توليه المنصب، ليخسر ماكرون بذلك ثالث رئيس حكومة له خلال عام واحد.
يأتي هذا التطور بعدما فشلت حكومة فرانسوا بايرو في نيل تصويت الثقة على برنامج التقشّف، بفعل مقاومة التغيير واعتبار البعض هذا التوجّه بمثابة "خيانة" و"انتحار سياسي". فماذا عن تداعيات أزمة الدولة في فرنسا على الشريك الوثيق، أي ألمانيا، ومعها الاتحاد الأوروبي؟
سلطة متشككة بالاتحاد الأوروبي
في هذا السياق، يعتبر الباحث السياسي والاقتصادي يان مولر، في حديث مع "النهار"، أنّ ما بدأ كنقاش ملحّ حول الموازنة تحوّل إلى مأساة وطنية وسط صراع على الحكم في وقت غير مناسب، إذ كان من المفترض أن تتكاتف الأطياف السياسية في هذه المرحلة تحديداً لإقرار موازنة تقشّفية تتضمّن تخفيضات هائلة في الإنفاق العام والخدمات، وحلّ أزمة الديون المفرطة بمقترحات إصلاحية، بعضها جاء بضغط من الاتحاد الأوروبي، لأنّ دين فرنسا وعجز ميزانيتها يبلغ ضعف ما تسمح به معايير الاستقرار في التكتّل.
وعن احتمال أن تؤدي أزمة الثقة إلى عزل ماكرون سياسياً أو تحجيم وجوده في السلطة حتى عام 2027، يشدّد مولر على أنّ "الأخطر هو ضعف القدرة على الحكم وسط المطالبات بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ما قد يمهّد لوصول حزب التجمّع الوطني اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبن إلى السلطة، مستفيداً من الأزمة، ومن زيادة خطط التقشّف وتقليص عدد موظفي الخدمة المدنية ورفض زيادة المعاشات التقاعدية".
ويقول مولر إنّ هذا الوضع "ينذر بإغراق فرنسا في فوضى سياسية خلال السنوات المقبلة، وستكون البلاد أمام طريق مفصلية بسبب معضلة تصارع المعسكرات السياسية في ما بينها كما لو أنّ الأمر يتعلّق بمصالح شخصية لا بمستقبل وطن".
ويضيف مولر: "الفشل في ضبط وتيرة الأمور سيؤدي إلى تداعيات تطال أوروبا بأسرها مع احتمال انضمام سلطة سياسية يمينية متطرفة في فرنسا متشككة من الاتحاد الأوروبي، والخشية من تقدّم حزب العدالة والقانون في بولندا، ما يعني التحاق دولتين جديدتين من دول التكتّل بهذا الركب، وتعاونهما مع المجري فيكتور أوربان والتشيكي روبرت فيكو لتعطيل سياسات بروكسل".
يرى مولر أنّ ذلك قد يرسم تدريجياً "نهاية المشروع الأوروبي الذي يدعو له ماكرون دائماً، أي أوروبا ذات السيادة القادرة على مواجهة موسكو وواشنطن بثقة"، خصوصاً مع تهديد الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب بفقدان دورها كشريك موثوق لأوروبا.
ترقّب ألماني
في ظلّ الحديث عن أنّ الأزمة السياسية في فرنسا قد تمتدّ آثارها إلى الأسواق المالية وتترك تبعات بالغة على الاقتصاد الألماني، تكشف مصادر مطّلعة عن أنّ الانطباع لدى السياسيين والخبراء الألمان هو أنّه لا تجب المبالغة في الدراما المرتبطة بفرنسا، إذ إنّ الاقتصاد الفرنسي نما بشكل أفضل ولا يشكّل حالياً مشكلة لمنطقة اليورو.
وترى المصادر أنّ باريس تواجه مشكلات سياسية واقتصادية جسيمة، لكنها لا تزال تتمتّع بمصارف قوية وقطاع اقتصادي واسع النطاق، بخلاف دول مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان، التي كانت، على سبيل المثال، عام 2010 مثقلة بالديون، بل تمّ التلاعب بإحصاءاتها، فيما كان اقتصادها غير قادر على المنافسة.
إلى ذلك، فإنّ السياسة الخارجية بيد ماكرون، ومنصبه ليس على المحكّ على الأقلّ حتى الآن. ويعمل الرئيس الفرنسي على انتشال البلاد من الأزمة رغم مطالبات المعارضة اليمينية واليسارية باستقالته، وهو لا يزال لاعباً أساسياً على المستوى الأوروبي.
لكن استمرار الأزمة الداخلية في فرنسا سيُفرمل المشاريع المشتركة بين برلين وباريس بعد "البداية الجديدة" للشراكة الوثيقة التي أرساها المستشار ميرتس وماكرون أخيراً، وبينها سياسات الطاقة وخيارات التمويل للشركات الناشئة والمشروع المشترك لصناعة الطائرة المقاتلة، خصوصاً أنها تتطلب دعماً سياسياً متواصلاً.
من جهة أخرى، ورغم القول إنّ خطط التقشّف المطروحة لا يمكن تسويقها سياسياً، يشير متابعون إلى أنّ حالة عدم اليقين السياسي في فرنسا ستنعكس على أداء الشركات الألمانية هناك، ولا سيّما أنّ باريس هي ثاني أكبر سوق تصدير لألمانيا وأكبر مستثمر مباشر في الدولة المجاورة عام 2024.
وفي هذا السياق، تفيد التقارير بأنّ الشركات الأكثر تضرراً هي تلك التي تعتمد على العقود العامة، إذ إنّ غياب الاستقرار يولّد حالة من الانتظار والترقّب بينها، ما يدفعها إلى تأجيل قرارات الاستثمار أو الشراء.
كذلك، من المتوقع أن يزيد التعثّر السياسي في فرنسا المثقلة بالديون، بالتوازي مع بيانات التضخم الجديدة وعلامات الاستفهام من قبل البنك المركزي الأوروبي، من القلق في الأسواق، وهو ما يشكّل مؤشراً للغيوم العاصفة التي تلوح في الأفق وقد تلامس ألمانيا، بعد أن بدأت الأسواق المالية العالمية ترتجف، وسط خشية من فقاعة في أسواق الأسهم والعقارات، وكل ذلك بفعل المشكلات القديمة التي لم تُحلّ بعد، وعلى رأسها الديون السيادية.
في ختام حديثه، يلفت مولر إلى أنّ "فرنسا، التي كانت يوماً ما محرّك أوروبا، أصبحت قضية إشكالية متعبة مع ارتفاع عدد رؤساء الحكومات المكلّفين خلال حكم الرئيس ماكرون وفشلهم في الاستمرار بمهمّتهم لإنقاذ الوضع".
ويشير إلى أنّ "فرنسا، التي تُعدّ ثاني أكبر ركيزة أساسية في التكتّل الأوروبي، تُعوّل عليها القارة في العديد من القضايا، أبرزها التجارة ودعم أوكرانيا. ومن دون حكومة فاعلة في باريس، لا تستطيع فرنسا، التي تشكّل ديونها نحو 114% من الناتج الاقتصادي، أداء دورها المحوري كقوة دافعة داخل الاتحاد الأوروبي".
وتُثقل كاهل فرنسا ديون بقيمة 3.3 تريليونات يورو، لتكون صاحبة أعلى ديون في أوروبا بأكملها.