على مدى أكثر من عقد، كانت منطقة دونباس في شرق أوكرانيا التي تعتبر كراماتورسك إحدى أكبر مدنها، محور معارك شرسة وخلافات ديبلوماسية.

بالنسبة إلى كييف، تعدّ دونباس مركزاً صناعياً حيوياً وحاجزاً دفاعياً، وهي منطقة غنية بالموارد، وتؤكد أوكرانيا بشدّة أنها جزء من سيادتها ولها جذور ثقافية عميقة.

أما بالنسبة إلى الكرملين، فهي ورقة سياسية للضغط على القيادة في كييف، وهدف استراتيجي يسمح بشن هجمات مستقبلية نحو العمق الأوكراني. ويصوّرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كمنطقة مرتبطة تاريخياً بروسيا، ويضعها في قلب طموحاته التوسعية وقد يُحسم مصيرها الآن في المكتب البيضاوي بدلًا من ساحة المعركة.

فرّ ما لا يقل عن 1.5 مليون أوكراني من دونباس منذ بدء الهجوم الروسي. ويقدَّر أنّ أكثر من ثلاثة ملايين يعيشون تحت السيطرة الروسية، فيما يقدَّر أنّ 300 ألف آخرين ما زالوا في المناطق التي تسيطر عليها أوكرانيا.

في المناطق الأقرب إلى خط الجبهة، باتت الحياة صراعاً محفوفاً بالمخاطر. وقال أندري بوريليو، وهو قسّ عسكري يبلغ من العمر 55 عاماً في مدينة سلوفيانسك المتضررة بشدة، في مقابلة هاتفية مع "بي.بي.سي"، إن قذائف سقطت بجوار منزله خلال عطلة نهاية الأسبوع.

وأضاف: "الوضع هنا بالغ الصعوبة. هناك شعور بالاستسلام والتخلي. لا أعرف إلى أي مدى لدينا القوة على التحمّل. لا بدّ أن يحميَنا أحد. لكن من؟".

وقد شدّد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي باستمرار على أنّ أوكرانيا لن تتخلى عن دونباس مقابل السلام. كما أنّ الثقة بروسيا في الالتزام بأي اتفاق من هذا النوع، بدلاً من استخدام الأرض المُلحقة لشنّ هجمات مستقبلية، شبه معدومة.

ويعارض نحو 75% من الأوكرانيين رسمياً التنازل عن أي أرض لروسيا، وفقاً لاستطلاع أجراه "المعهد الدولي لعلم الاجتماع في كييف".

وقال مصدران مطلعان مباشرة على المحادثات في ألاسكا لصحيفة "ذا غارديان" إنّ بوتين طالب بانسحاب أوكرانيا من دونباس، التي تشمل منطقتي دونيتسك ولوغانسك، على أن يجمد الوضع على طول خطوط الجبهة المتبقية.

وعلى الرغم من أنّ لوغانسك باتت تحت السيطرة الروسية شبه الكاملة، فإنّ أوكرانيا لا تزال تحتفظ بأجزاء رئيسية من دونيتسك، بما في ذلك مدينتا كراماتورسك وسلوفيانسك، فضلاً عن مواقع محصّنة بشدة كلّف الدفاع عنها عشرات آلاف الأرواح.

وقال بوتين لترامب إنه مقابل التنازل عن دونيتسك ولوغانسك، سيوقف المزيد من التقدم ويجمّد خط المواجهة في منطقتي خيرسون وزابوروجيا في جنوب أوكرانيا، حيث تحتل القوات الروسية مساحات واسعة.

ويأتي ما نقل عن دعم ترامب للتنازل عن منطقة دونباس الأوكرانية، الغنية بالموارد المعدنية، بما في ذلك الفحم وخام الحديد، لمصلحة روسيا، في وقت عبّر فيه عن تأييده للانتقال مباشرة إلى اتفاق سلام بدلاً من هدنة، قائلاً في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي يوم السبت إن "اتفاقات وقف إطلاق النار غالباً لا تصمد".

وهدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض عقوبات اقتصادية على الدول التي تشتري النفط الروسي إذا رفضت موسكو التوصل إلى اتفاق، كما أرسل قاذفات أميركية للتحليق فوق مكان وصول الرئيس الروسي إلى ألاسكا.

لكن القادة الأوكرانيين والأوروبيين يخشون أن يؤدي الانتقال مباشرة إلى اتفاق سلام، متجاوزاً مرحلة وقف إطلاق النار، إلى منح موسكو اليد العليا في المفاوضات.

وقال ترامب في منشوره يوم السبت إن "الجميع اتفقوا" على أن من الأفضل الانتقال مباشرة إلى اتفاق سلام متفاوض عليه، رغم أن القادة الأوروبيين أشاروا إلى أن هذا ليس موقفهم.

وجاء في بيان مشترك أصدره القادة الأوروبيون أنهم "مستعدون للعمل مع الرئيس الأميركي ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي نحو قمة ثلاثية بدعم أوروبي"، لكنهم أكدوا أن "القرار بشأن الأراضي يعود لأوكرانيا، وأن الحدود الدولية يجب ألا تُغيَّر بالقوة".

ترامب وبوتين (أرشيفية)

ماذا نعرف عن دونباس؟

تتكوّن دونباس من منطقتي دونيتسك ولوهانسك، وهي قوة صناعية تمتد على مساحة تقارب 20 ألف ميل مربع. تزخر بالفحم والمعادن، وتنتشر فيها المدن الصناعية والموانئ المهمة على بحر آزوف.

بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، قاتل الانفصاليون المدعومون من موسكو القوات الأوكرانية في دونباس، في صراع دام ثماني سنوات وأودى بحياة نحو 14 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة.

في عام 2022، اعترف بوتين بإقليميْن انفصالييْن، "جمهورية دونيتسك الشعبية" و"جمهورية لوغانسك الشعبية" المعلَنتيْن ذاتياً، قبل أن يطلق غزوه الشامل لأوكرانيا.

وبعد ثلاث سنوات، سيطرت روسيا على نحو 88% من إقليم دونباس، بما في ذلك كامل لوغانسك و75% من دونيتسك، بحسب خرائط مفتوحة المصدر لساحات القتال. وتدّعي  روسيا السيادة على هذين الإقليمين، إضافة إلى القسم الأكبر من منطقتي زابوريجيا وخيرسون الجنوبيتين، فضلاً عن القرم.

شروط روسيا لإنهاء الحرب تشمل أن تتخلى أوكرانيا عن الأراضي التي يطالب بها بوتين، أي ما يقارب 20% من البلاد، وأن توافق على الحياد الدائم، بما في ذلك حظر الانضمام إلى الناتو.

أما كييف فقد تعهّدت بألا تعترف أبداً بالسيطرة الروسية، وحلفاؤها الأوروبيون أكدوا أن روسيا لا يمكنها فرض فيتو على مسار أوكرانيا نحو الناتو.

لماذا تتمسّك أوكرانيا بدونباس؟

تعهد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن أوكرانيا لن تتخلى عن دونباس مقابل السلام. فالمنطقة تعدّ حاجزاً دفاعياً ومركزاً صناعياً، والتنازل عنها سيضعف البلاد عسكرياً واقتصادياً.

تقول الكاتبة والناشطة إيفانا سكيبا لـ"أن. بي.سي. نيوز": "لا يمكننا قبول أي احتمال للتخلي عن أراضينا. الأمر لا يتعلّق بالأراضي، بل بشعبنا وقيمنا وطريقة حياتنا".

وأضافت: "إذا تخلينا عن الأرض، فستستمر هذه الحرب. لن تتوقف"، مشيرةً إلى سوابق تاريخية حيث قدّمت أوكرانيا تنازلات مؤلمة لتواجه لاحقاً عدواناً روسياً جديداً.

وهذا النمط هو محور القلق هنا. فحتى لو نجح زيلينسكي في الحصول على ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وأوروبا، يعتقد كثيرون أن بوتين لن يتوقف عند دونباس.

وجدد زيلينسكي الأحد التأكيد أن التنازل عن الأراضي أمر مستحيل بموجب الدستور الأوكراني، الذي ينص على أن سيادة الأمة "تمتد إلى كامل أراضيها"، وأن حدودها "غير قابلة للتجزئة ولا المساس بها".

منازل مدمرة بعد غارة على بلدة بريفيليا في منطقة دونباس بشرق أوكرانيا (أرشيفية)

لماذا يستهدف بوتين دونباس؟

تعدّ دونباس منطقة يقطنها قسم كبير من الناطقين بالروسية، فيما اتّهم بوتين أوكرانيا بارتكاب إبادة جماعية ضدهم، من دون أن يقدم أدلة.

بعد فشل روسيا في السيطرة على كييف في الأشهر الأولى من حرب 2022، حوّلت تركيزها إلى "تحقيق الهدف الرئيسي، أي تحرير دونباس".

ويعرض بوتين المنطقة باعتبارها مرتبطة تاريخياً بروسيا وبإرث الاتحاد السوفياتي، ويقدّم حربه كجزء من جهد أوسع لتوسيع نفوذ الكرملين على أراضٍ يعتبرها "روسية أصيلة".

كما أن قدراتها الصناعية ومواقعها المحصّنة ووصولها إلى بحر آزوف تمنح روسيا نفوذاً اقتصادياً وأهمية استراتيجية قد يستخدمها بوتين كنقطة انطلاق لهجمات مستقبلية، بحسب تحذيرات زيلينسكي.

يقول بافيل بودفيغ، الخبير في القوات النووية الروسية لـ"أن.بي.سي.نيوز": "من الممكن أن يكون هذا عرضاً من موسكو مصمَّماً ليرفَض"، إذ "سيكون من المستحيل سياسياً على القيادة في كييف القبول به".

وأضاف بودفيغ، وهو باحث بارز في معهد الأمم المتحدة لبحوث نزع السلاح: "بالنسبة إلى الكرملين، الأمر ليس متعلقاً حقاً بالأراضي. هذا ليس ما تريده موسكو من هذه التسوية".

فالكرملين قد يسعى للسيطرة على أكبر قدر ممكن من أوكرانيا، لكن بودفيغ يؤكد أنه لن يقبل صفقة سلام إلا إذا تضمنت أيضاً منع اندماج أوكرانيا أكثر مع الغرب كدولة مستقلة مسلّحة.

أين تقع الخطوط الأمامية الآن؟

رغم محاولات بوتين المستمرة منذ أكثر من عقد للسيطرة على دونباس وفشله، إلا أن قواته بدت هذا الشهر وكأنها تحقق تقدماً مفاجئاً قد يهدد مدناً مثل كراماتورسك وبوكروفسك القريبة.

لكن القوات الأوكرانية نجحت في الأيام الأخيرة في تثبيت جبهة القتال هناك، بحسب مسؤولين محليين ومراقبين غربيين.

مع ذلك، تواصل روسيا تقدّمها البطيء في شرق أوكرانيا، وأعلنت في تموز/يوليو الماضي سيطرتها على بلدة تشاسيف يار في دونيتسك، بعد 16 شهراً من القتال.