محوريّة لروسيا وأوكرانيا تتمسّك بها... لماذا يسعى بوتين للاستيلاء على دونباس؟

يركّز الاقتراح الروسي لإنهاء الحرب في أوكرانيا، الذي نتج عن قمّة ألاسكا بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، على إقناع كييف بالتخلي عن دونباس، مقابل تجميد الصراع في بقية أنحاء البلاد على طول خطوط الجبهة الحالية، وتقديم تعهد مكتوب بعدم شن هجوم مرة أخرى، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز".
رفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي رفضاً قاطعاً التخلي عن أيّ أراضٍ ليست تحت الاحتلال الروسي بالفعل. وقال للصحافيين: "لن نغادر دونباس. لا يمكننا فعل ذلك". وأكد أنه لن يقبل هذا الاقتراح لأن ذلك من شأنه أن يحرم كييف من خطوط دفاعها ويمهّد الطريق أمام موسكو لشن المزيد من الهجمات.
وبما أن اقتراح بوتين بشأن أوكرانيا يركز على دونباس، يشكل مستقبل هذا الإقليم محور اتفاق سلام محتمل، فما أهمّيته ولماذا يطالب بوتين به؟
تاريخ واقتصاد وأمن
تُعدّ هذه المنطقة، التي يتحدث سكانها اللغة الروسية تقليدياً وتشمل منطقتي لوغانسك ودونيتسك، جوهر ما يسمّيه بوتين "الأسباب الجذرية" للحرب، ويحتل الاستيلاء عليها مكانة متقدمة في قائمة مطالبه.
وهي محور تركيزه بناءً على إيمانه بالوحدة التاريخية للناطقين باللغة الروسية في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي السابق.
ويقول الدكتور في القانون والعلاقات الدولية بشارة صليبا، في حديث مع "النهار"، إن بوتين يرى دونباس مهمة ومحورية لأسباب عدة، مشيراً إلى أن هناك سبباً تاريخياً واقتصادياً وأمنياً.
ويتابع صليبا: "الأهمية التاريخية للوغانسك ودونيتسك بالنسبة إلى موسكو كبيرة للغاية، إذ أُلحقتا بأوكرانيا الناشئة عام 1919... هذه المناطق تُعدّ روسية في الوجدان القومي الروسي، وسكانها من الروس أصلاً. بعد نحو سبعين إلى ثمانين عاماً، تبيّن أن التجربة السوفياتية لم تذوّب الاختلافات والانتماءات والهويات، فبقيت هذه المناطق تحمل حساسياتها".
بدأت الحرب الروسية - الأوكرانية في شباط/فبراير 2014. بعد ثورة الكرامة الأوكرانية، احتلت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية وضمّتها إليها. ثم دعمت انفصاليين قاتلوا ضد الجيش الأوكراني في منطقة دونباس. ومنذ الغزو الروسي الشامل عام 2022، كانت دونباس مسرحاً لأعنف معارك الحرب، وهي محور التركيز الرئيسي للهجوم الروسي الصيفي. ومنذ 2014، استولت القوات الروسية على حوالي 87% من دونباس، وفقاً لبيانات "ديب ستايت"، وهي مجموعة أوكرانية تتابع تطورات ساحة المعركة.
تقع لوغانسك بالكامل تقريباً تحت سيطرة روسيا، لكنّ أجزاءً من دونيتسك، بما في ذلك المدن الاستراتيجية كراماتورسك وسلوفيانسك، لا تزال في أيدي أوكرانيا. هذه مواقع محصنة بشدة دافعت عنها كييف بتكلفة باهظة. وتقوم القوات الروسية الآن بتقويض 2600 ميل مربع من المنطقة التي لا تزال في أيدي الأوكرانيين مع خسائر فادحة.
ودونباس هي قلب الصناعة في أوكرانيا. المنطقة غنيّة بالفحم والصناعات الثقيلة، ما يجعلها بالغة الأهمية لاقتصاد أوكرانيا. السيطرة عليها ستمنح روسيا سيطرة شبه كاملة على شرق أوكرانيا وتحرمها من مصدر طاقة قوي.
وفي هذا الصدد، يقول صليبا إن أهمية دونباس الاقتصادية تكمن في كونها منطقة صناعية غنيّة بالموارد الطبيعية، و"قد شكّلت حجر الأساس في نهضة أوكرانيا السوفياتية، تحت إشراف روسي مباشر".
أمنياً وعسكرياً، رأت روسيا توسُّع الناتو شرقاً نحو حدودها تهديداً وجودياً. ويشير صليبا في هذا الإطار إلى أن "توسّع الناتو شرقاً نحو حدود روسيا خرق الاتفاقات التي أُبرمت عند تفكك الاتحاد السوفياتي، والتي قضت بعدم اقتراب الناتو من حدود روسيا، وبأن تبقى دول شرق أوروبا منطقة عازلة محايدة".
ويضيف: "إلا أن الناتو تجاهل هذه الاتفاقات، وبدأ بضم دول شرق أوروبا، الأمر الذي رأته روسيا تهديداً وجودياً. كلما اقترب الناتو أكثر من الحدود الروسية، زادت التوترات، وكان لا بد، من وجهة نظر موسكو، من رد فعل قوي يعيد التوازن".
ليست مجرّد أرض
تتمتع المنطقة بقيمة استراتيجية. وصف محللون في "معهد دراسات الحرب"، وهو مجموعة بحثية مقرّها واشنطن، دونيتسك بأنها "حزام حصين"، حيث أقامت القوات الأوكرانية دفاعات متعددة الطبقات منذ عام 2014. تشمل هذه الدفاعات الخنادق والمخابئ وحقول الألغام والمناطق الحضرية المحصنة التي عوّقت تقدم روسيا لأكثر من عقد من الزمان، وفقاً لما أوردته صحيفة "الإندبندنت".
ولا تزال المدن تحت سيطرة أوكرانيا في دونباس متصلة بطريق واحد يمتد من الشمال إلى الجنوب، ويشكل خطاً دفاعياً يمنع القوات الروسية من اجتياح البلاد، فتسليم المنطقة سيعطي موسكو السيطرة على التحصينات التي أنفقت أوكرانيا عشرات الملايين من الدولارات لبنائها.
التوقف عند دونباس؟
وإذا وافقت أوكرانيا على سحب قواتها من دونباس، فهل سيتوقف بوتين ويلتزم باتفاق سلام؟
شددت أوكرانيا على أن التنازل عن الأراضي من شأنه أن ينتهك دستورها. وأصر زيلينسكي على أن أي تسوية يجب أن تتضمّن ضمانات أمنية قوية، بدعم من الغرب، لردع أي عدوان جديد.
ويقول المسؤولون الأوكرانيون إنهم لن يتنازلوا عن أراضٍ مقابل وعد غامض بالسلام لا يثقون بأن روسيا ستلتزم به.
ووفقاً لـ"معهد دراسات الحرب"، فإن التخلي عن دونباس دون قتال سيمكّن القوات الروسية من تجديد هجماتها والتقدم غرباً.
وقال معلقون مؤيدون للحرب إن روسيا ستواصل القتال حتى الإطاحة بحكومة زيلينسكي وتشكيل حكومة أكثر مرونة. لكن العديد من المحللين المستقلين يشككون في أن روسيا تمتلك الموارد الاقتصادية والعسكرية اللازمة لمواصلة هجومها إلى ما هو أبعد من دونباس.
يبقى مصير دونباس عقدة رئيسية في الحرب، بين إصرار بوتين على ضمها ورفض أوكرانيا التنازل عنها، ما يجعل إنهاء النزاع مرهوناً بتسويات غير مضمونة تضمن مصالح الطرفين.