لماذا لم يكن توغل كورسك بالسوء المتصوّر لأوكرانيا؟

أخيراً، وبعد سبعة أشهر ونيّف، طردت روسيا القوات الأوكرانية من منطقة كورسك – تقريباً. بعدما أطلقت أوكرانيا توغلاً مفاجئاً في آب (أغسطس) 2024 في المنطقة (أوبلاست) الروسية، سيطرت خلال الأسبوعين الأولين على نحو 1200 كيلومتر مربع من الأراضي. تسبب ذلك بموجة نزوح شملت ما يقرب من 200 ألف روسي. وأسر الجيش الأوكراني مئات الروس بادلهم لاحقاً بأسراه في روسيا.
بحلول 15 آذار (مارس)، وبعدما سيطرت على سودجا، أكبر بلدة في المنطقة خاضعة لسيطرة كييف، اقتربت القوات الروسية من الحدود الأوكرانية بـ 10 كيلومترات تقريباً. لكن "رويترز" نقلت عن خبراء قولهم إن موسكو باتت على مشارف طرد القوات الأوكرانية من المنطقة.
بالرغم من النتيجة النهائية التي تتكشف حالياً، بدت عملية التوغل مدروسة إلى حد بعيد.
ما أثبتته أوكرانيا
أظهرت أوكرانيا أنها، وبالرغم من النقص العددي على الجبهة، ظلت قادرة على احتلال أراض روسية لفترة غير قصيرة. في نهاية المطاف، كان ذلك هو التوغل الأول في الأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية.
من جهة أخرى، قلبت أوكرانيا المعادلة الروسية رأساً على عقب. ما كان في شباط (فبراير) 2022 هدفاً روسياً بإسقاط كييف خلال بضعة أيام، تحول إلى هدف باستعادة كورسك خلال بضعة أيام، فأسابيع ثم أشهر. وجهت أوكرانيا رسالة إلى الروس مفادها أن جيش بلادهم عاجز عن حمايتهم، إلى درجة أنه اضطر للاستعانة بمساعدة من الكوريين الشماليين لتحقيق هدفه.
ثالثاً، غالباً ما تتطلب الحروب مناورات جريئة، وهذا ما بينته أوكرانيا خلال الأشهر الماضية. على النقيض من ذلك، التزمت روسيا إلى حد بعيد بخطتها شبه الوحيدة للتقدم في الميدان طوال الحرب، وهي ما اصطُلح تسميتها بـ "موجات اللحم".
رابعاً، أصرت أوكرانيا على إقناع حلفائها الغربيين بأنها قادرة على الاحتفاظ بالمبادرة إذا حظيت بالدعم الكافي، وأن عجزها عن استعادة أراضيها في الهجوم المضاد الفاشل صيف 2023 لم يكن قدراً محتوماً. بالحديث عن الهجوم المضاد، تعلمت أوكرانيا في كورسك شن هجمات بالأسلحة المشتركة، ولو على نطاق ضيق نسبياً، وهو ما فشلت فيه خلال هجومها المضاد الكبير.
خامساً، استندت الخطة الأوكرانية إلى تصور منطقي قائم على تبادل الأراضي. إذا لم يكن الغرب مستعداً لمد أوكرانيا بما تطالب به من أسلحة لفترة طويلة فقد يكون احتلال بعض الأراضي الروسية نفوذاً معقولاً قبل التوجه إلى طاولة التفاوض.
ولم تكن العملية الأوكرانية ناجحة استخبارياً لأنها كشفت نقاط ضعف الروس، أو لأنها فاجأتهم فقط. بشكل مفارق، تمتعت العملية بنصيب من النجاح لأنها فاجأت الأميركيين أيضاً. لو علمت الإدارة الأميركية مسبقاً بالتوغل، لكانت حاولت منع الأوكرانيين من الإقدام على العملية، هذا إن لم تتسرب منها معلومات للروس أيضاً.
عن "الحفاظ" على الموارد
في حين قال كثر إنه كان من الأفضل لأوكرانيا أن تحتفظ بجنودها ومعداتها في الداخل لمواجهة التقدم الروسي الذي لم يتوقف منذ التوغل في كورسك، تبين وهن الحجة لسببين على الأقل.
من ناحية، نجح الهجوم بشكل ما في الحد من التقدم الروسي. أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أنه تم تثبيت الجبهة حول بلدة بوكروفسك، تلك البلدة الشهيرة التي تحدث المراقبون عن اقتراب سقوطها منذ سقوط بلدة أفديفكا في شباط 2024.
من ناحية ثانية، لم تكن فرضية الاحتفاظ بالموارد الأوكرانية في الجبهة الداخلية منطقية تماماً. بدلاً من استنزاف تلك الموارد في التصدي لهجمات روسية لا هوادة فيها، أمكن تسخيرها لضرب "خاصرة رخوة" في روسيا. عملياً، بدت أوكرانيا وكأنها تعلمت درس باخموت التي خسرتها بالرغم من تحصينها وتركيز عشرات الآلاف المقاتلين داخلها. هذه المرة، وبدلاً من الاصطدام بالجيش الروسي الأكبر عدداً والأكثر تسلحاً بشكل مباشر، كان هجوم كورسك يشبه عملية التفافية أقل تكلفة بالنسبة إلى أوكرانيا.
الاستباق الأكبر
كان التوقيت مهماً أيضاً. على أبواب الانتخابات الأميركية، أرادت أوكرانيا تذكير الأميركيين بأن دعمهم لم يذهب سدى، كما أرادت أن يكون لها بعض النفوذ في حال وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. في حين كان الاستباق صحيحاً، ربما بدد زيلينسكي عن غير قصد أوراق القوة التي جمعها طوال الأشهر الماضية. فبعد المشادة الكلامية في البيت الأبيض يوم 28 شباط الماضي، خسرت أوكرانيا الدعم الاستخباري الأميركي، بما في ذلك المسح الكهرومغناطيسي للميدان والذي يساعد في بناء هجمات الطائرات بلا طيار والترددات المتأثرة بالتشويش. (استخدمت أوكرانيا في بداية الهجوم نطاق تردد مختلف لمسيّراتها مما ساهم في نجاح العملية).
تزامنت خسارة كورسك مع قطع المساعدات الاستخبارية الأميركية وهذا التزامن لافت للنظر. هل كانت الخطوة الأميركية حاسمة في الخسارة، أم أن التزامن مجرد صدفة؟ يرى خبراء أن التقدم الروسي بدأ قبل التوتر الأميركي-الأوكراني وقد ساعد في ذلك استخدام الروس لمسيّرات تعمل على كابلات الألياف الضوئية مما قيّد قدرة الأوكرانيين على التشويش. تمكنت هذه الطائرات بلا طيار من إضعاف خطوط الإمداد الأوكرانية وبالتالي إسقاط الجبهة.
لكن بحسب ما نقلته مجلة "تايم" الجمعة عن مسؤولين وضباط غربيين وأوكرانيين، كان تأثير قطع التعاون الاستخباري كبيراً جداً. فقد خسر الاوكرانيون أيضاً القدرة على رصد الهجمات الآتية من عمق الأراضي الروسية.
لم تكن مغامرة فاشلة
يمكن تقييم معركة كورسك باعتبارها مغامرة فاشلة، لكن الدليل على نجاح أي بديل آخر هزيل. شبه البعض التوغل في كورسك بمعركة غيتسبرغ في الحرب الأهلية الأميركية (1863) والتي مثلت منعطفاً بالنسبة إلى فوز الاتحاديين. لكن إلى الآن، ما من إشارة إلى أن الهزيمة في كورسك ستطلق تداعيات سلبية متسارعة في الميدان الأوكراني، ناهيكم عن خسائر بشرية أوكرانية هائلة كما حصل في غيتسبرغ (عشرات آلاف الخسائر في 3 أيام).
باختصار، كان على كييف، في مواجهة تقدم روسي ثابت، الإقدام على مخاطرة محسوبة. وهذا ما فعلته. الحرب مجموعة من الخيارات السيئة. وإلى الآن، اختارت أوكرانيا أحد الخيارات الأقل سوءاً.