أوروبا بلا زعيم يواجه "الجرف" الترامبي... وبوتين يتفرّج!

أوروبا تحت الاختبار. من بوابة حرب أوكرانيا، يسيطر التشتّت على القارة العجوز رغم كل محاولات قادتها الظهور بموقع القوّة والقرار والسلطة. هذا الوضع الذي تعمّق أكثر مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب مجدّداً إلى السلطة وكشف كل أوراقه، أظهر هشاشة الوضع الأوروبي والانقسام داخل الاتحاد، والأهم غياب الزعامة الأوروبية ما شكّل نقطة ضعف أساسية في مواجهة ترامب من جهّة والتقارب الأميركي – الروسي من جهّة أخرى.
يتفرّع المشهد الأوروبي أمام التوجّه الأميركي الموحّد، ففي الوقت الذي أعاد فيه ترامب التواصل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين وعادت اللقاءات بين البلدين مع تحضيرات لتتويجها بقمّة بين الرئيسين، كان المسلسل الأوروبي بدأ بإنتاج الأجزاء... من لقاءات الإليزيه إلى اجتماع لندن ولا ينتهي بالاجتماعات المنفردة بين زعماء أوروبيّين وترامب في البيت الأبيض.
فهل ستستطيع أوروبا ربح حرب المواجهة مع ترامب انطلاقاً من كل هذا المشهد؟ أم أنّ البقاء للأقوى دائماً؟
ترامب يستقبل وبوتين يتفرّج!
منذ إعلان ترامب نيّته إنهاء حرب أوكرانيا حتّى قبل وصوله إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير، تأهّبت أوروبا لمواجهة الملياردير الأميركي ولكن غياب الخطّة الكاملة أفقدها فعاليّتها. فما يواجهه التشتّت الأوروبي يقابله تخطيط أميركي: عودة الاتّصالات الروسية – الأميركية، لقاء بين وزيرَي الخارجية في العاصمة السعودية الرياض فكرّت بعده سُبحت اللقاءات الدبلوماسية.
ومن الجهّة الأوكرانية أيضاً، لقاءات ومباحثات أراد تتويجها بصفقة معادن تعويضاً عن المال الذي دفعته واشنطن مقابل دعم كييف إلّا أنّ التراشق الكلامي الذي صدم العالم في البيت الأبيض الأسبوع الماضي بين ترامب وزيلينسكي فرمَل الصفقة. ولكن بلا أدنى شكّ الأمور لم تنتهِ هنا!
وعلى هاتين الجبهتين، ترك ترامب التخبّط للأوروبيّين. بين تقاربه مع روسيا والصفعة لأوكرانيا، من "حليف تقليدي"، لا ترجمة لأفعال أوروبا وزعمائها.
وآخر الصدمات كان قرار ترامب الإثنين تعليق المساعدات الأميركية العسكرية إلى أوكرانيا. وقد علّق مسؤول في إدارة ترامب قائلاً: "لم يعتقد الأوكرانيون أنّنا جادون".
إقرأ أيضاً: ترامب يبتزّ أوكرانيا القلقة بمعادنها النادرة... بين "أميركا أوّلاً" وهيمنة الصين!
من الزعيم... كلّنا زعماء؟!
على إيقاع هذا التخبّط، فتح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باب الزعامة، فبادر وعقد اجتماعين مخصّصين لأوكرانيا في شباط/فبراير جمع فيهما قادة من القارّة الأوروبية، وخلصا إلى النتيجة نفسها: نريد سلاماً دائماً.
بعد المشادة الكلامية التاريخية بين ترامب وزيلينسكي في البيت الأبيض، استغلّ رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر اللحظة الأقوى فدعا عقبها إلى اجتماع في لندن مخصّص لأوكرانيا. وأعلن بعد الاجتماع أن المشاركين اتّفقوا على وضع خطّة سلام لأوكرانيا لعرضها على الولايات المتحدة، وقال: "بريطانيا وأوكرانيا وفرنسا ودول أخرى ستشكّل تحالفاً من الراغبين لوضع خطّة".
هذا الكلام لا يشكّل حتّى الآن إلّا حبراً على ورق، ولعلّ الاستنتاج الوحيد منه هو سحب بساط الزعامة والمبادرة من فرنسا إلى بريطانيا، فإذاً المنافسة محتدمة!
هذا التوجّه كرّسه نهج ماكرون وستارمر. ففي الأسبوع نفسه، توجّه كل زعيم بمفرده للقاء ترامب في البيت الأبيض في جدول أعمال مزدحم تصدّرته بالطبع حرب أوكرانيا. فماذا منع ماكرون وستارمر من التوجّه معاً للقاء ترامب مع أفكاره؟ وأين الخطّة المفصّلة للسلام بعد دخول الحرب عامها الرابع؟
وعلى هذا النهج أيضاً، إنّ كثرة الاجتماعات مع غياب النتيجة من نقاط الضعف لا القوّة في الأوقات الصعبة...
محرّكات معطّلة؟
وسط كل هذه التحدّيات وعواصفها، يبزر السؤال عن فعاليّة القوى داخل القارّة الأوروبية. ففرنسا التي تحجز لنفسها دوراً محورياً، هي من الدول المؤسسة للاتّحاد الأوروبي وتُعد قوّة دبلوماسية بارزة وثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا. مع ذلك، تمتلك فرنسا واحدة من أقوى الجيوش الأوروبية، وهي الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تمتلك أسلحة نووية وعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ما يمنحها نفوذاً في القرارات.
ولكن على وسع هذه الإيجابيات، يتخبّط الدور الفرنسي القيادي في أوروبا، مع كثرة مشاكل باريس الداخلية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، والمنافسة العلنية داخل البيت الواحد مع ألمانيا، والتي تفتح صفحة جديدة مع وصول فريدريش ميرتس إلى منصب المستشار، والصعود الناري لليمين المتطرّف بإشادة أميركية غير مخفيّة.
وتحاول إيطاليا، مع رئيسة الوزراء اليمينية جورجيا ميلوني، أن تحجز لنفسها مكانة في "مقصورة" القيادة الأوروبية، مستغلّة علاقتها الجيّدة بترامب وحليفه إيلون ماسك. إلّا أن لماكرون "الزعيم" كلاماً آخر، فأكّد الأحد أن "أوروبا بحاجة إلى إيطاليا قويّة، تعمل إلى جانب شركائها... لإيجاد مخرج من الحرب في أوكرانيا". الواضح وفق الرئيس الفرنسي أن الدور الإيطالي لم ينضج بعد...
بريطانيا، المغرّدة خارج سرب الاتحاد الأوروبي بقيادة كير ستارمر العمّالي، تحاول استعادة دورها كقوّة عظمى قادرة على تغيير واقع وفرض معادلات وهي تعد قوّة عسكرية كبيرة في أوروبا وتمتلك ترسانة نووية. لعلّ الحرب الأوكرانية الاختبار الأهم في مواجهة روسيا. على وقع كل نقاط القوّة أيضاً، تغيب القيادة البريطانية في ظل المنافسة مع القوّتَين الفرنسية والألمانية والملفّات الداخلية أيضاً فيضيع القرار ومركز صنعه!
مواجهة غير مسبوقة وإلغاء المؤتمر الصحفي... ترامب لزيلينسكي غاضباً: توصل إلى اتفاق وإلا سننسحب (فيديو)
"رجل صفقات"
من بيته الأبيض، يتحكّم ترامب بالمشهد فيفرض شروطه ويستهزء ويصرخ ويحذّر، فحربه على حلفائه قبل خصومه أطلقت يده كـ"زعيم عالمي" ولم يبرز أمام الرئيس الجمهوري شخصية أوروبية تُلاقي تطلّعاته وزعامته. فكان ما يريده في روسيا "النص التاني". في كل معاركه، يريد ترامب "رجل صفقات"، وحتّى الآن، بوتين هو الزعيم الوحيد القادر مسايرته. شخصيّتان متقاربتان. حتّى أن الإدارة الروسية أعلنت تطابق أفكارها مع إدارة الرئيس الأميركي.
وبوتين نفسه أبدى استعداد موسكو إشراك شركات أميركية في استخراج المعادن النادرة من الأراضي الأوكرانية المحتلّة، وقد أتى هذا الكلام بالتزامن مع صفقة المعادن بين واشنطن وكييف والتحضير لها قبل المشادة الكلامية التاريخية.
الزعامة الأوروبية تتداعى، وغيابها يُثقل هموم القارة من دون انفراجات. فهل يمكن أن يظهر قائد أوروبي أمام الجرف الترامبي؟