نوتردام تنفض رمادها: سيّدة ضفاف السين تروي تاريخ أمّة

ثقافة 06-12-2024 | 05:19

نوتردام تنفض رمادها: سيّدة ضفاف السين تروي تاريخ أمّة

على مدى أكثر من ثمانية قرون، ارتفعت كاتدرائية نوتردام بوقار ورهبة وسط العاصمة الفرنسية، شاهدةً على التاريخ العاصف لأمّةٍ وعلى عبقريتها الفنية. التحفة القوطية التي تهيمن أبراجها على نهر السين، ليست مجرّد معلم معماري؛ إنها ملاذٌ روحاني، وكنزٌ عمراني، وأيقونةٌ ثقافية حضارية من زمن غابر ولكلّ الزمن.
نوتردام تنفض رمادها: سيّدة ضفاف السين تروي تاريخ أمّة
كاتدرائية نوتردام في باريس. (النهار)
Smaller Bigger

عندما وُضعت أولى حجارة نوتردام عام 1163، بدفعٍ من الأسقف موريس دو سولي، كانت مملكة فرنسا تمرّ بمرحلة تحوّل عميقة. كانت الكاتدرائية تهدف إلى تجسيد قوة الإيمان وعظمة الإنسان، وقد صُمّمت لتحتضن العدد المتزايد من المؤمنين، ولتعكس روعة الفن المسيحي. قرنان من الزمن، وإذ بالصرح العملاق يشقّ سماء باريس ويشهد على روعة الفن. أجيال من الحرفيين تعاقبت وأكملت العمل العظيم.

 

الأقواس والقناطر، المنحوتات والنوافذ الوردية العملاقة التي تروي قصصاً من التاريخ المسيحي، حوّلت الكاتدرائية من كنيسة ضخمة إلى إنجيلٍ من حجر ونور، وباتت واحدة من أبرز روائع الفن القوطي. وبحلّتها المجيدة، عبرت نوتردام القرون شاهدة صامتة على اللحظات العظيمة والمآسي الكبرى في تاريخ فرنسا. شهدت دخول جان دارك إلى باريس، وتُوجّ فيها ملوك وأباطرة، حتّى أنّها عانت التدنيس أثناء الثورة الفرنسية، وصولاً إلى الخامس عشر من نيسان (أبريل) عام 2019، يوم اندلع حريق مروّع فيها، انهار على إثره برجها الشاهق تحت أنظار العالم، ووسط صلوات الفرنسيين، في مشهدٍ بدا وكأنّه ينتزع جزءاً من روح فرنسا.

في الآتي، محطات طبعت تاريخ فرنسا، المملكة والجمهورية، وتركت أثرها، إيجاباً أو سلباً، على معلم ضخم من معالم الإنسانية والثقافة:

1239: إكليل شوك
ليلة الحريق الرهيب، سارع مدير الكاتدرائية لإنقاذ إكليل الشوك المنسوب إلى المسيح، وسط النار والدخان. هذا الإكليل التاريخي أودع للمرّة الأولى في الكاتدرائية في 19 آب (أغسطس) 1239 على يد الملك القديس لويس. ومن بين الذخائر الثمينة الأخرى التي نجت من الحريق، التُونية التي يُعتقد، وفقاً للتقاليد، أنّ الملك كان يرتديها يوم استقبل الإكليل.

1455: إعادة الاعتبار لجان دارك
السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) 1455، عُقدت الجلسة الأولى من محاكمة إعادة الاعتبار للبطلة القومية الفرنسية جان دارك في كاتدرائية نوتردام، بعد 24 عاماً من إدانتها وإعدامها حرقاً. وبعد أقلّ من عام، أُعلن أن الأحكام التي أدانتها كانت "باطلة، لا أساس لها، ومن دون قيمة ولا دليل".

1793: "معبد العقل"
خلال الثورة الفرنسية، أصبحت نوتردام ملكاً للدولة. ومع مساعي اجتثاث الكاثوليكية عام 1793، تحولت الكاتدرائية إلى "معبد العقل"، وخُصِّص مذبحها لتصوّر إلهي للعقل. قُطعت رؤوس تماثيل الملوك والقديسين التي زيّنت الواجهة، وبعضها قُسّم إلى قطع متناثرة في أنحاء باريس. ووسط إهمال وتهالك، تحوّلت الكاتدرائية في النهاية إلى مستودع للنبيذ لخدمة الجيش.

1831: فيكتور هوغو وإنقاذ نوتردام
عندما نُشرت رواية "أحدب نوتردام" عام 1831، أدرك الرأي العام حالة التدهور التي وصلت إليها جوهرة نهر السين، وتحوّلها، بفعل الثورة والنهب والحرائق، مجرّد ظلّ لما كانت عليه. ببساطة، لاحت فكرة هدمها، وكادت الأعمال أن تنطلق من دون عوائق.
كان للكاتب الفرنسي فيكتور هوغو رأي آخر. "يصعب ألّا نتنهّد، وألّا نستاء أمام التدهور والتشويه الذي ألحقه الزمن والبشر بهذا المعلم الجليل"، كتب. تحت قلمه، ولدت عاطفة جماعية تجاه الكاتدرائية التي صورها كسيّدة من لحم وحجر. نجاح كتاب "نوتردام دو باري" (أحدب نوتردام) أدّى إلى إنشاء خدمة المعالم التاريخية عام 1834، والتي عيّنت المهندس المعماري أوجين فيوليه لو دوك لتولي مشروع ترميمها. استمرّ العمل على مدار أكثر من 20 عاماً، مانحاً الكاتدرائية المظهر الذي عرفناه قبل مأساة حريق عام 2019.

1944: ديغول تحت النيران
مساء 24 آب (أغسطس) 1944، قُرع جرس "إيمانويل" الكبير في نوتردام بصوته العميق المهيب، معلناً دخول الفرقة المدرعة الثانية بقيادة الجنرال لوكلير إلى باريس. بعد يومين، جاب الجنرال ديغول العاصمة بطلاً محرّراً، مختتماً رحلته في الكاتدرائية، حيث حضر صلاة الـ"ماغنيفكا" (تمجيد مريم العذراء). كانت الممرات مكتظة بالجماهير، رغم إطلاق النار من قبل القناصة المختبئين في الأروقة العليا، مما تسبب في تساقط شظايا الحجارة على الحشود.

حريق 2019: الجرح الوطني
في الخامس عشر من نيسان (أبريل) عام 2019، اندلع حريق مروع في نوتردام. شاهد العالم البرج الخشبي والسهم الذي صمد لقرون ينهاران في لحظة، بعد مقاومة بائسة للنيران التي أتت على السقف ونجت منه أبراج الأجراس الرئيسية والجدران الخارجية وبعض المقتنيات الأثرية الدينية والأعمال الفنية التي لا تُقدّر بثمن. تجاوز الحدث حدود فرنسا، وأثار موجةً من العاطفة والتضامن العالمي. وفي غضون عشرة أيام، تبرّع المليارديريون وأشخاص عاديون بما لا يقلّ عن 750 مليون يورو من أجل أعمال الترميم. وقد تمثّل التحدّي الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في إعادة بناء الكاتدرائية كما كانت، مع احترام التقنيات الأصلية، مما يمثل حواراً بين الماضي والمستقبل.

أما التحقيقات التي يجريها ثلاثة قضاة لمعرفة سبب الكارثة، فلا تزال مستمرة منذ أكثر من أربع سنوات. وانتهى التحقيق الأولي إلى ترجيح حصول الحريق عرضاً.

نوتردام ليست مجرّد كاتدرائية، إنّما علامة فارقة في التاريخ والفن والهوية الجماعية. دقّت أجراسها احتفالاً بالانتصارات وحداداً على المآسي. ألهمت الفنانين والكتّاب والمسرحيّين وصانعي الأفلام، لتدخل الذاكرة الجماعية للفرنكوفونيّين وتصبح رمزاً عالميّاً للصمود والجمال.

 

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 10/28/2025 5:28:00 AM
تتحمل المصارف  مسؤولية استثمار جزء أساسي من أموال المودعين في مصرف لبنان، رغم علمها بعجز المالية العامة، فيما يتحمل "المركزي" مسؤولية تمويل الدولة خارج الأطر القانونية
اقتصاد وأعمال 10/28/2025 10:49:00 AM
يعطي المدعي العام المالي القاضي ماهر شعيتو عناية خاصة لملف المبالغ المستعادة ومتابعة كل تفاصيله.
صحة وعلوم 10/29/2025 2:06:00 PM
أنقذ الطبيب اللبناني الدكتور محمد بيضون طفلاً من الموت بجراحة غير مسبوقة أعاد فيها وصل رأسه بجسمه، بعدما كان الأمل مفقوداً في نجاته.
أوروبا 10/29/2025 1:12:00 AM
ابنة بريجيت ماكرون في شهادة أمام القضاء: "إنهم يسخرون من أولادي ويقولون أن جدتهم متحولة".