ويتكوف - كوشنر في موسكو: هل تنهي "ديبلوماسية الصفقات" حرب أوكرانيا؟
يغلب خيار "الصفقة المؤدية إلى سلام" على خيار "عملية السلام" في التحرك الأميركي الأخير لإنهاء النزاع بين روسيا وأوكرانيا، حيث غاب الاعتماد على القنوات الديبلوماسية التقليدية التي تقودها وزارة الخارجية ومؤسسات الأمن القومي، لصالح تكليف مبعوثين غير تقليديين، يتحدران من خلفيات تجارية، من أجل قيادة عملية التفاوض.
نهج "ديبلوماسية رواد الصفقات" هذا مدفوع برغبة رئاسية أميركية لتحقيق "نتائج سريعة" في مساعي إنهاء الحرب، على قاعدة تسويق "خطة الـ28 نقطة" الأميركية المقترحة للسلام، والتي كانت ثمرة نقاشات كثيفة بين المبعوث الخاص الرئاسي ستيفن ويتكوف، وصهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنر، والمستشار الاقتصادي الأقدم للكرملين كيريل ديميترييف. ثلاثة أسماء تُعد مؤشراً واضحاً على "نزعة معاملاتية" تهيمن على هذه الجولة من المفاوضات.
أثارت الخطة الأميركية قلقاً كبيراً في العواصم الأوروبية وفي كييف، إذ تضمنت بنوداً تثبت مكاسب روسيا الاستراتيجية والاقتصادية في أوكرانيا، لكن المثير جداً للريبة في الخطة المطورة – من وجهة نظر أوروبية وأوكرانية – تضمنها بنوداً تتعلق بإعادة دمج روسيا في الاقتصاد العالمي، مثل رفع العقوبات المفروضة عليها ودعوتها للعودة إلى مجموعة الثماني (G8). وهذا الأمر يبرر مشاركة كيريل ديميترييف، المستشار الاقتصادي لبوتين، لتعديل بوصلة الخطة بما يؤكد أن هدف موسكو من المفاوضات اليوم ليس عسكرياً بحتاً، إنما سعي الى تصفير تكاليف الغزو: مقايضة الأراضي التي احتلتها بالشرعية الاقتصادية الكاملة ورفع القيود الدولية.
إلى ذلك، كشفت تسريبات عن قيام ويتكوف بتدريب المسؤول الروسي يوري أوشاكوف على كيفية تقديم الخطة الى البيت الأبيض، لذا يقول الأوروبيون إن "خطة الـ28 نقطة" لم تكن أساساً للتفاوض، بل كانت أداة ديبلوماسية غير تقليدية لتقديم المصالح الروسية في شكل مبادرة أميركية، وهذا يفسر السعي الأوكراني والأوروبي للحدّ من أضرار هذه الخطة من خلال المفاوضات في جنيف وفلوريدا، والتي أثمرت "خطة الـ19 نقطة"، التي يحملها ويتكوف إلى موسكو.

زيارة موسكو: تمرير الخطة المحدّثة
يلتقي ويتكوف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم الثلاثاء، رغم ازحام جدول مواعيده الرئاسية قبل مغادرته الخميس إلى الهند. وهذا الإسراع في إنهاء الأمور المعلقة يعكس عقلية "رواد الصفقات" التي تسعى إلى إبرام اتفاق مباشر وسريع، متجاهلة المدد الزمنية الطويلة التي تتطلبها الديبلوماسية التقليدية. كما يمثل الإسراع رغبة أميركية في تحصيل موافقة مبدئية على الإطار المحدث للخطة الأميركية قبل انخراط بوتين في التزامات دولية أخرى.
الهدف الرئيس لزيارة ويتكوف الترويج لـ"خطة الـ19 نقطة" الجديدة، وإقناع الكرملين بأنها تمثل "أساساً عملياً" يمكن البناء عليه. كما يسعى ويتكوف إلى طمأنة بوتين الى أن القناة المباشرة بين ترامب والكرملين مفتوحة وتعمل بكامل طاقتها، رغم التشدد الديبلوماسي الذي أبداه روبيو في اجتماع فلوريدا مع الأوكرانيين الأحد.
رغم الانفتاح الظاهري، أظهر الموقف الروسي ثباتاً في ما يتعلق بالمكاسب الإقليمية، إذ أشار بوتين إلى أن الإطار الجديد الذي عُرض عليه "يمكن أن يكون أساساً للمفاوضات، لكن موسكو بحاجة إلى التحدث بشأن النقاط الأخرى"، مكرراً شرطه القاطع لوقف القتال: لن يتوقف الهجوم إلا متى انسحبت القوات الأوكرانية من الأراضي التي تسيطر عليها كييف حالياً، إضافة إلى الاعتراف بالأراضي التي ضمتها روسيا، في ما يمكن أن يبدو رفضاً مبطناً لروح الخطة المعدلة، أي حماية السيادة الأوكرانية.
في الواقع، لا تتم المفاوضات على محتوى السلام، بل على مستوى الجدية الأميركية في الضغط على كييف لتنفيذ المطالب الروسية القصوى، وإذا فشل ويتكوف في تأكيد هذه القدرة على الضغط، فمرجح توقف المسار الديبلوماسي، لأن بوتين لن يستثمر الوقت في مفاوضات لا تضمن مكاسبه الأساسية.

قمة فلوريدا: احتواء القلق الأوكراني
في محاولة لاحتواء ردات الفعل الأوروبية والأوكرانية السلبية على انحياز "خطة الـ28 نقطة" لروسيا، عُقد اجتماع رفيع ثنائي المستوى الأحد 30 تشرين الثاني/نوفمبر في فلوريدا، فترأس الوفد الأميركي وزير الخارجية ماركو روبيو الذي تولى مهمة "الديبلوماسي التقليدي" في احتواء القلق الأوكراني، فيما كانت مهمة الثنائي ويتكوف – كوشنر ضمان المسار الرئاسي في الخطة. وترأس الوفد الأوكراني رستم أوميروف، رئيس مجلس الأمن القومي والدفاع.
أتاح هذا الترتيب التفاوضي لواشنطن فرصة انتهاج استراتيجية الازدواجية في القيادة الديبلوماسية: قدم مسار روبيو ضمانات ديبلوماسية علنية لكييف تتعلق بهواجسها السيادية، واحتفظ مسار ويتكوف-كوشنر بـ"القناة الخلفية" الفعالة لتمرير الصفقة التجارية مع الكرملين.
استمرت محادثات فلوريدا أربع ساعات، ووصفها مسؤولون في الجانبين بأنها "صعبة لكن بناءة ومثمرة وناجحة". وأشار روبيو إلى أن العمل مستمر بعد لقاءات جنيف السابقة، مؤكداً أن الهدف ليس إنهاء القتال فحسب، بل "ضمان أمن أوكرانيا إلى الأبد" ودخولها "عصراً من الازدهار الحقيقي". كما أعرب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن شكره لترامب على الجهد الكثيف المبذول في رسم خطوات إنهاء الحرب. وركزت الاجتماعات على تعديل المقترح الأولي، استناداً إلى مقترح مضاد قدمه الأوروبيون ونوقش في جنيف، ما أثمر إطار عمل معدلاً يضم 19 نقطة، أكد فيه الجانب الأوكراني على أهم خطوطه الحمراء: سيادة أوكرانيا ومصالحها الوطنية، حرية القرار الأوكراني في الانضمام إلى "الناتو".
هل ينجح نهج ويتكوف-كوشنر؟
النزعة التجارية في إدارة النزاعات الجيوسياسية محفوفة بمخاطر لا يمكن التغاضي عنها، خصوصاً عندما تتجاوز هذه النزعة الأطر المؤسساتية. فتفضيل يتكوف وكوشنر إبرام الصفقات على الكلام الديبلوماسي يُنشئ بيئة تفاوضية تجارية قد يصعب لجمها، خصوصاً أن الرجلين يستمدان نفوذهما من قربهما شخصياً من ترامب، وليس من تفويض صادر عن الكونغرس. وقد أثار تسريب مكالمات لويتكوف وهو يمرّن مسؤولين روس على الترويج لخطة ترامب مخاوف عميقة من انحياز أميركي لمصلحة موسكو، فهذا يقوض صدقية واشنطن بصفتها وسيطاً محايداً.
أول المخاطر المحيطة بهذا النهج هو الانحياز لـ"سلام المنتصر" (Victor's Peace Bias)، أي التركيز على ما هو سهل سياسياً للمنتصر المفترض، بدلاً من البحث عن حلول عادلة ودائمة. فالخطة الأميركية الأولية انطلقت من استحالة انتصار أوكرانيا فطالبتها بـالاستسلام والتنازل عن الأراضي وتحديد حجم جيشها. وتكمن المخاطرة الثانية في مقولة "الغاية تبرر الوسيلة" (Outcome over Process)، فاتفاقات السلام تستمد ديمومتها من شرعية تكتسبها في الأطراف الموقعة عليها بعد إشباعها بحثاً وتمحيصاً. أما المخاطرة الثالثة فهي تحيز القوى الكبرى (The Great Power Bias)، وهذا جلي في تقويض الدور الأوروبي في عملية صوغ شروط التفاوض.
ربما ينجح الثنائي الأميركي ويتكوف – كوشنير عملياً في وقف الحرب في أوكرانيا، لكن نهج "ديبلوماسية الصفقات" التي يعتمدانها تؤدي على المدى البعيد إلى تآكل الثقة بين الحلفاء. فثمة خشية أوروبية من افتقار الاتفاق – إن حصل - إلى ضمان مؤسسي أميركي، ما دام معقوداً بضمان ترامب وحده، وهذا يجعل "الصفقة" عرضة للانهيار ما أن تتغير الإدارة الأميركية أو يتراجع نفوذ ترامب الرئاسي، أو متى أراد بوتين.
قد يتوقف دوي المدافع في أوكرانيا، لكن صفقةً لا تراعي مصالح "الناتو" والأمن الأوروبي قد تؤدي إلى تفكك وحدة الغرب أمام روسيا. وهذا ما يريده الكرملين في النهاية.
نبض