
امتلاك المهارات الرقمية بات أمراً أساسياً بالنسبة للعاملين في مختلف المجالات ومستويات المهنة. لكن أرباب العمل اليوم مهتمين أكثر بمهارات أخرى غير تقنية لدى موظفيهم، لكونها مهارات غالباً ما يتسم بها الأشخاص، وإتقانها ليس بسهولة المهارات التقنية. مع تفاعل العاملين مع الآلات الأكثر ذكاءً، بدأ الطلب على ما يُسمّى بالـ soft skills أو المهارات الناعمة (الشخصية) يتزايد. ويبدو أنّ مفهوم "الذكاء العاطفي" هو الذي يصنع مستقبل الوظائف، وليس الذكاء الاصطناعي، على الرغم من أهمية الأخير.
ماذا يعني هذان المصطلحان؟
ترتبط المهارات الناعمة بإتقانك التعامل مع الآخر في العمل، والطريقة التي تحلّ بها المشكلات وتدير بها عملك؛ وهي مهارات لا تزال الآلات بعيدة كل البعد عن إتقانها، مثل الاستقلال، المسؤولية، التواصل، التعاون، طريقة التعبير الصحيحة شفهياً أو خطياً، المرونة وإدارة الوقت... ويُعتبر الذكاء العاطفي جزءاً من هذه المهارات، فهو يعرّفك على نقاط ضعفك، وهو القدرة على فهم وإدراك مشاعرك ومشاعر الآخرين عبر التعاطف معهم، مما يمكن أن يجعلك أفضل في بناء العلاقات وقيادة مكان العمل. في المقابل، تُعتبر المهارات القوية hard skills، مهارات تقنية تتعلّق بالقدرة على تنفيذ العمل ومتطلّباته فقط.
تقنيات الأتمتة والذكاء الاصطناعي ستسرع التحوّل في المهارات التي تحتاجها القوى العاملة. فالطلب على المهارات التكنولوجية والاجتماعية والعاطفية والمعرفية العليا سوف يرتفع مع انخفاض الطلب على مهارات أخرى، بما في ذلك المهارات البدنية واليدوية، بحلول عام 2030، وبحسب دراسة قام بها معهد "ماكنزي" بعنوان "Skill shift: Automation and the future of the workforce". سوف تتطلّب هذه التغييرات من العمال تطوير مهاراتهم الحالية أو اكتساب مهارات جديدة، وسوف تحتاج الشركات أيضاً إلى إعادة التفكير في كيفيّة تنظيم العمل.
وفق الدراسة، بين عامي 2016 و2030، سوف ينمو الطلب على المهارات الناعمة في جميع المجالات بنسبة 26 في المئة في الولايات المتحدة، وبنسبة 22 في المئة في أوروبا. وفي حين نجد أن بعض المهارات فطرية، مثل التعاطف، فإن بعضها الآخر، مثل التواصل المتقدّم، يمكن صقله وتعليمه. وسيكون ارتفاع الطلب على ريادة الأعمال واتخاذ المبادرة هو الأسرع نمواً في هذه الفئة، مع زيادة بنسبة 33 في المئة في الولايات المتحدة وارتفاع بنسبة 32 في المئة في أوروبا. كذلك ستنمو الحاجة إلى القيادة وإدارة الآخرين بقوة.
إلى ذلك، سينمو الطلب على المهارات المعرفية العليا، مثل الإبداع والتفكير النقديّ واتخاذ القرار ومعالجة المعلومات المعقّدة بحلول عام 2030، بنسبة 19 في المئة في الولايات المتحدة، وبنسبة 14 في المئة في أوروبا.
هل المهارات الناعمة هي مستقبل الوظائف فعلاً؟
الدكتورة مادونا سلامة أيانيان- أستاذة محاضرة في كلية إدارة الأعمال في جامعة الروح القدس الكسليك.
قطعاً أن الذكاء العاطفي والمهارات الناعمة تشكّلان مستقبل العمل والوظائف. وقد شكّلت العولمة العامل الأهمّ في التطرق إلى المهارات الناعمة في العمل. فاليوم، تتعاطى الشركات مع مختلف الأطراف من زبائن ومورّدين وموظفين، كشخصيات متنوّعة، لكلّ منها طباعها وطريقة تفكيرها. ولكي تستطيع هذه الشركات الاستمرار وإيجاد تعاون بنّاء بينهم جميعهم، كان الأساس هو التواصل السليم، ونسج علاقات جيّدة بينهم، وتعزيز النّقد البنّاء والابتعاد عن التنميط.
أيضاً، مع التكنولوجيا المتطورة، تغيّر شكل العمل ولم يعد حضورياً فقط بل مرناً وهجيناً. كذلك طوّر الذكاء الاصطناعي والأتمتة دوراً كبيراً في انتقال الطلب والتركيز على المهارات الناعمة. ورغم أهميتها، فالتكنولوجيا لا تستطيع حلّ المشاكل العملية في الوظائف التقنية، كما أنّها لا تستطيع أن تشعر وتتعاطف.
صحيح استطاعت التكنولوجيا القيام بوظائف تقنية عوضاً عن الإنسان، لكنها لم تستطع تغطية التعاطف مع الغير وممارسة التفكير النقدي. بالتالي، وبما أن طبيعة العمل تغيرت، كان لا بدّ من أن تتغير المهارات المطلوبة معها. فتقنياً، ما كنّا نعرفه ونتقنه أمس يتغيّر بسرعة البرق.
المهارات الناعمة ترافق الشخص في أيّ وظيفة أو شركة حلّ بها، وهي تفوق الوظيفة التي ينالها، ويحملها معه أينما حلّ، على عكس الخبرة أو الشهادة. فالمهارات الناعمة هي مهارات للحياة، تجعل الموظف شخصاً أفضل، وتوفر له ميزة تنافسية تجعله يتفّوق على سواه وتفتح له آفاقاً جديدة، وتساهم في تنمية الشركة التي يعمل فيها.
عمَّ تبحث الشركات اليوم؟
الشركات اليوم تركّز على زبائنها، وعلى بناء علاقات صحيحة وقوية، تتميّز بالوفاء معهم، والرضا منهم، في ظل العولمة وزيادة حدة المنافسة. هذا الأمر ينفَّذ عبر المهارات الناعمة؛ فكل الشركات قادرة على إنتاج منتج جيد هو الميزة الفارقة. بالتالي، تبحث الشركات مثلاً عن أشخاص ذوي نقد بنّاء يحلّون به المشاكل، وأصحاب قرار.
لذا، لم تعد الشهادات والخبرات المعرفية من أولويات الشركات اليوم في التوظيف، فهي صبّت تركيزها على المهارات، ليصير التوظيف على أساس الكفاءة والتقييم؛ فشخصية الموظف وسلوكه هما معياران أوّليّان في التوظيف اليوم، بما فيها انفتاحه على التعلّم وعلى الآخرين، لا سيما كلّما صعدنا في هرمية التوظيف. وبات التطوّر في داخل الشركات يرتكز على تنمية المهارات التي تحتاجها للاستمرار بالعمل.
عملياً، يفضّل مسؤول الموارد البشرية اليوم الموظف الذي يتحلّى بمهارات ناعمة قوية مع خبرة معرفيّة متوسطة، على موظف ذي خبرة معرفيّة قوية بمهارات ناعمة متوسّطة.
الذكاء العاطفي بيرز بإدراك الموظف لذاته، وبمعرفته نقاط قوته وضعفه، للتمكن من إدارة المشاكل؛ ويبرز كذلك بالتعاطف، أي بوضع نفسه مكان الشخص الآخر، كوضع القائد نفسه مكان الموظف، وفق ما تمارسه بقوة الشركات الحديثة. والشركات تعي الآن أن الحياة ليست عملاً وإنتاجية للشركة فقط إنما حياة للموظف ورفاهية. من هنا، يلقى الذكاء العاطفي تبنّياً كبيراً حالياً في عالم الأعمال والشركات.
هل يمكن تعلّم المهارات الناعمة أم أنها تُوهب للإنسان؟
هناك أشخاص يتحلّون بهذه المهارات بطبيعتهم، فهي سمات إنسانية، لكن لا شكّ في أنّها مهارات يمكن تعلّمها وتنميتها، من خلال الالتحاق بورش عمل أو دورات تدريبية أو بودكاستات، بمجرد أن يتحلّى الشخص بذهنية التعلّم والانفتاح والتغيير والتطوّر.
توقعات وأرقام!
يشير تقرير "المنتدى الاقتصادي العالمي" حول "مستقبل الوظائف لعام 2023" إلى أن التفكير التحليلي والتفكير الإبداعي والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة ستكون من أبرز المهارات المطلوبة بحلول عام 2027. ومن المتوقّع أن تشهد مهارات القيادة والتأثير الاجتماعي والفضول والتعلّم مدى الحياة طلباً متزايداً. ويُعدّ إتقان التكنولوجيا ثالث أسرع المهارات الأساسية نمواً، في حين يشغل الفضول والتعلّم مدى الحياة والمرونة والليونة والدافع والوعي الذاتي المراكز الخمسة الأولى.