صحة وعلوم 10-12-2024 | 14:25

الشيزوفرينيا كلمة مخيفة؟ جرِّب أن تعرف عنها بهدوء

لعل أبرز ما يميّز الشيزوفرينيا أنها اضطراب شديد في عمليات التفكير، وصولاً إلى الأحاسيس والمشاعر والخيال وغيرها. ويقود ذلك إلى خلخلة في مكوّنات شخصية الإنسان، خصوصاً تفكيره وتعامله مع الآخرين والمجتمع بل مجمل ما يحيط به ويتعامل معه. وتحت تأثير ذلك، يحدث نوع من التفكك في شخصية المصاب، فيصبح مختلفاً بشكل كبير عن الإنسان العادي، وكذلك يتبدّل عن حاله قبل المرض. ومن يعايش أسر المصابين بالشيزوفرينيا، يسمع قصصاً لا تنتهي [لكنها متشابهة أيضاً] عن التبدّل الذي أصاب المريض، فنقله من حال إلى آخر. وبقليل من الحوار الهادئ، يتضح أنه حتى العائلة العادية تدرك أن ابنها المُصاب ما زال يحتفظ بكثير من مكوّنات شخصيته وذكرياته ومشاعره وغيرها. 
الشيزوفرينيا كلمة مخيفة؟ جرِّب أن تعرف عنها بهدوء
يضطرب التفكير والشخصية في الشيزوفرينيا
Smaller Bigger

لعلك سمعت بكلمة شيزوفرينيا(Schizophrenia).

والأرجح أن لقاءك معها لم يكن ساراً، بل خالطته مشاعر منفرة على الأغلب. إذن، كيف وصلت إليك هذه الكلمة، وشقّت طريقها في وعيك وذاكرتك؟ هل شاهدت فيلماً أو مسلسلاً أو شريط فيديو، فيه شخصية تعاني من ذلك الاضطراب النفسي الشديد، الذي يسمّى أيضاً الفُصام (Psychosis)؟ لعلك قرأت كتاباً أو مقالات على الإنترنت عن ذلك الاضطراب النفسي الذي، بالنسبة إلى كثيرين، يستحضر صورة شخص له "شخصيتين" متعاكستين؛ لكن لا شيء أبعد عن الحقيقة من ذلك. ويزيد في الالتباس أن الاسم العلمي يعني باللغة اللاتينية "شخصية منقسمة" (Split Personality). ومرة أخرى، تخادعنا التسميات والأسماء.   

في الثقافة العربية، تحمل تلك الكلمة ظلالاً متنوّعة، لكنها شديدة الوطأة إلى حد تحوّلها وصمة ثقيلة لا تقتصر على المريض، بل تتعداها إلى عائلته وربما أكثر. ولطالما اعتبرت الشيزوفرينيا مساوية لـ"الجنون"، وهي كلمة تتصل في اللغة مع "الجن"، وتحمل في ظلالها إشارة إلى تلبّس الجن للبشر، وإن كان لذلك مسار نقاش آخر.  

 

صوَر ومفاهيم مغلوطة

 

 

إذن، لنبدأ بهدوء نقاشاً عن المعاني والصور المغلوطة التي تحيط بذلك المرض:

01-    ليست الشيزوفرينيا عبارة عن "شخصيتين" للمريض، ولا هي "ازدواج" شخصية الإنسان، ولا حتى "انقسامها". والأرجح أن تسميتها تشير إلى تخلخل مكوّنات الشخصيّة عند الإنسان.

02-      هناك اعتقاد غرائبي لدى كثير من العرب بأن الشيزوفرينيا تصيب من لديهم معدلات ذكاء مرتفعة، على قاعدة أن "كثرة الذكاء توصل إلى الجنون"! ربما يصح التذكير بأن معظم الإصابات بالأنواع الأكثر شيوعاً من الشيزوفرينيا تحدث في مرحلة الشباب،التي يتصاعد فيها تألّق الأذكياء؛ فإذا أصيب أحدهم بالفُصام، تشتهر حالته، فتتناقلها الألسن. في أميركا مثلاً، اشتهر عالِم الرياضيات الراحل جون ناش بأنه كان مصاباً بأحد أنواع الشيزوفرينيا، لكن ذكاءه لم يكن سبباً بإصابته بالفُصام، بل استمر في إنتاجه العلمي أثناء مرضه. ومجدداً، لا علاقة بين الشيزوفرينيا والذكاء.

03-    ليست الشيزوفرينيا مرضاً واحداً، بل تتوزع على أنواع عدّة، تتشابه في مناحٍ معينة، لكنها تختلف وتتباين في مناحٍ كثيرة أخرى. ولا يتسع  المجال لنقاش تلك المسألة، لكن يجدر تذكّرها دوماً.

04-    لا تنتقل الشيزوفرينيا بالوراثة. قد تؤثر الجينات في مسار تلك الحالة لكنها لا تنتقل بالوراثة أبداً. وبيّنت دراسات متكاثرة أن الجينات المتّصلة بها ربما وُجِدتْ لدى أشخاص طبيعيين، كذلك يوجد مرضى بالفُصام لا يحملون تلك الأنواع من الجينات.

05-    هل يستحيل شفاء مريض الشيزوفرينيا منها؟ ربما يجب نقاش الأمر برويّة. هل يشفى مريض السكري أو المصاب بارتفاع في ضغط الدم، بمعنى الشفاء التام والكامل وإلى الأبد؟ هناك أمراض مزمنة، كالسكري وارتفاع ضغط الدم، تستمر مع صاحبها طوال عمره، ويتمثل الهدف الأساسي من العلاج بالسيطرة على المرض وأعراضه. وبالعودة إلى حال جون ناش، استطاع العلاج أن يصل بذلك العالِم إلى السيطرة على مرضه الذي تمثل جزءٌ منه برفضه العلاج!    

 

تلخيص موجز عن الشيزوفرينيا

 

لعل أبرز ما يميّز الشيزوفرينيا أنها اضطراب شديد في عمليات التفكير، وصولاً إلى الأحاسيس والمشاعر والخيال وغيرها. ويقود ذلك إلى خلخلة في مكوّنات شخصية الإنسان، خصوصاً تفكيره وتعامله مع الآخرين والمجتمع بل مجمل ما يحيط به ويتعامل معه. وتحت تأثير ذلك، يحدث نوع من التفكك في شخصية المصاب، فيُصبح مختلفاً بشكل كبير عن الإنسان العادي، وكذلك يتبدّل عن حاله قبل المرض. ومن يعايش أسر المصابين بالشيزوفرينيا، يسمع قصصاً لا تنتهي [لكنها متشابهة أيضاً] عن التبدّل الذي أصاب المريض، فنقله من حال إلى آخر. وبقليل من الحوار الهادئ، يتضح أنه حتى العائلة العادية تدرك أن ابنها المُصاب ما زال يحتفظ بكثير من مكوّنات شخصيته وذكرياته ومشاعره وغيرها. وضمن ذلك الأفق، يمكن الحديث عن بعض الأعراض التي تعطي الشيزوفرينيا ملامحها المميزة، وهي على النحو الآتي:

 

1-           يعاني مريض الشيزوفرينيا من رؤية أشياء لا وجود لها (= "هلاوس بصرية" Visual Hallucinations)، ويسمع أصواتاً غير موجودة فعلياً (= "هلاوس سمعيّة" Auditory Hallucinations). وتتملك عقله أفكار غرائبيّة لا أساس لها، ولا برهان عليها، ولا تستند إلى شيء، والأنكى أنه مهما قُدِّمَت براهين واضحة على خطأ تلك الأفكار، فهو لا يتزحزح عن قناعته بها. وتبدو تلك الأفكار مختلّة تماماً بالنسبة إلى معظم الناس في محيط المريض، لكنها تتملك عقله كليّاً، بل تملي عليه تصرفاته فتصبح مغايرة لكل ما عليه الحال في المجتمع. وفي اللغة العربية، تسمّى تلك الأفكار أحياناً   "هذاءات" Delusions. وفي القاموس تظهر ترجمات أخرى من نوع "ضلالات" وأوهام" و"هذيان" وغيرها. والأرجح أن تلك الهذاءات تشكل مصدر الأعراض الأكثر بروزاً في ذلك المرض.

2-           الشيزوفرينيا مرض منتشر وغير مُعدٍ، بل تقدّر نسبة الإصابة به بقرابة 1% من الناس.

3-           أحياناً، يظهر عارض اسمه "كاتاتونيا" (Catatonia)، وقوامه أن يتخذ المريض وضعاً معيناً لا يتغيير ولا مبرر له، لمدة طويلة، أو أن يكرّر حركة معينة (كالتأرجح مثلاً) بصورة غير مبرّرة، ولفترة طويلة أيضاً.

4-           ينسحب بعض مرضى الشيزوفرينيا من الحياة العامة والعائلية، ويفقدون القدرة على الابتهاج والسعادة، وهي أساساً من أعراض مرض الكآبة، لكنها ربما تصيب بعض أولئك المرضى أيضاً.

5-           هناك أعراض كنوبات الهيجان والغضب وإيذاء الآخرين بالضرب والشتائم وغيرها، تظهر أحياناً في بعض مرضى الشيزوفرينيا، لكن بنسبة أقلّ كثيراً مما يشيع عنها.

6-           أحياناً، تقتصر أعراض المرض على إهمال المريض لنفسه ونظافته الشخصية (عدم تنظيف الملابس أو الغرفة، وعدم الاستحمام)، وانقطاع التواصل مع الآخرين، والتوقف عن العمل، وعدم الاهتمام بما يحدث، والابتعاد عن أقرب الناس وغير ذلك.

7-           يضطرب تفكير المصاب بالشيزوفرينيا. ولا يميز الحقيقة من الأوهام والهذاءات الخاصة به. وربما أحسّ بأن هناك من "يسرق الأفكار من رأسه" مثلاً، أو يقفز من فكرة إلى أخرى من دون رابط واضح بين تلك الأفكار التي تغدو مشوّشة وغير مفهومة ولا مترابطة.

8-           تظهر الشيزوفرينيا غالباً ما بين سنّي الـ16 و30 عاماً. ونادراً ما تصيب الأطفال أو من تجاوزوا سن الـ40 عاماً. ويتساوي الرجال والإناث في الإصابة بها، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأعراق والإثنيّات.

9-           تندرج الشيزوفرينيا ضمن فئة من الاضطرابات العصبيّة- النفسيّة تسمّى "ذُهان" أو "فُصام" التي تضم مجموعة اضطرابات أخرى.  

 

بالعودة إلى السينما العربية، حاول فيلم "آسف على الإزعاج" [2008- بطولة: أحمد حلمي ومنة شلبي] تقريب صورة بعض أعراض الشيزوفرينيا كالهلوسات السمعيّة والبصريّة والهذاءات وغيرها. وقد وُفّق الفيلم إلى حد كبير في ذلك، لكن يجب تذكُّر أنه عمل فني وليس شريطاً علمياً عن الشيزوفرينيا!

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/15/2025 8:43:00 PM
 خلف الحبتور: في موقف يعكس غطرسة لا حدود لها، يخرج رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ليأمر سكان غزة بإخلاء مدينتهم، وكأنها ملك له يوزع أهلها كما يشاء
المشرق-العربي 9/12/2025 12:25:00 PM
إقفال منتجع "إكس بيتش" في منطقة وادي قنديل في محافظة اللاذقية.
شمال إفريقيا 9/15/2025 11:56:00 AM
محاكمة سيدة متهمة بقتل زوجها وأطفاله الستة في قرية دلجا التابعة لمركز ديرمواس بمحافظة المنيا
لبنان 9/14/2025 2:53:00 PM
 تغيير مسار طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط المتجهة من بيروت إلى مطار هيثرو في لندن بسبب عارض صحي أصاب أحد الأطفال