قانون الفجوة المالية: "بند التسريع" لتحويل تحسّن الاقتصاد من وعدٍ سياسي إلى حقٍّ للمودع

اقتصاد وأعمال 27-12-2025 | 11:19

قانون الفجوة المالية: "بند التسريع" لتحويل تحسّن الاقتصاد من وعدٍ سياسي إلى حقٍّ للمودع

كلّما سمع المودِع وعداً جديداً، تذكّر فوراً عشرات الوعود التي لم تُنفَّذ.
قانون الفجوة المالية: "بند التسريع" لتحويل تحسّن الاقتصاد من وعدٍ سياسي إلى حقٍّ للمودع
قانون الفجوة المالية يثير جدلاً في لبنان. (أ ف ب)
Smaller Bigger

محمد فحيلي*

 

في لبنان، ليست أزمة الودائع أزمة أرقام فحسب. هي أزمة ثقة قبل كل شيء. والسبب بسيط: كلّما سمع المودِع وعداً جديداً، تذكّر فوراً عشرات الوعود التي لم تُنفَّذ. هنا تحديداً يظهر جوهر قانون الفجوة المالية: ليس مجرد جدول دفع، بل الإطار الذي يُقرّر، قانوناً، كيف تُعرَّف الفجوة أصلاً، وكيف تُقاس، وكيف تُوزَّع خسائرها بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمساهمين والمودعين، وبأية أدوات، أي أنه يحدد: ما هو الحد الأدنى المحمي وكيف يُحتسب، ومن أين يأتي تمويله، وما الذي سيُدفع نقداً وما الذي سيُحوَّل إلى شهادات/أدوات طويلة الأجل، وما هي طبيعتها القانونية ومن هو المدين بها، وعلى أي موارد ستُسدد، وما هي التراتبية (تراتبية الحقوق) التي تمنع تحويل المودع إلى ممتصّ خسائر قبل المساهمين وأصحاب الامتياز. 

لذلك، لا يكفي أن يأتي مشروع قانون الفجوة المالية بجداول سداد تمتدّ أربع سنوات هنا، وعشر سنوات هناك، وعشرين سنة في مكان ثالث. المشكلة ليست في طول المدة وحده، بل في أن هذه الجداول إذا لم تُبنَ على حقيقة مُدقَّقة (تدقيق) ومراجعة نوعية للأصول وحوكمة تمنع الاستثناءات، تصبح مجرّد تصميم سياسي قابل للتعديل والتعليق والالتفاف، فتتحول المهل إلى مساحة جديدة للإنكار والتسويف. وتماماً لأن القانون هو الذي سيترجم التحسّن الاقتصادي، إن حصل، إلى واقع، فإن غياب آلية قانونية تجعل أي تحسّن مُلزِماً للدولة والمصارف، لا مجرّد خطاب يمكن التراجع عنه عند أول أزمة سياسية، هو ما يقتل الصدقية من الأساس.

من هنا تأتي فكرة بند التسريع أو المكوّن الاستشرافي داخل قانون الفجوة المالية: إذا كانت الحكومة تقول إنها تتجه إلى برنامج إنقاذ وتمويل مع صندوق النقد الدولي، وإذا كانت تقول إن ذلك سيُحسّن الظروف الاقتصادية ويزيد القدرة على الإيفاء للمودعين، فلتترجم هذا الكلام إلى نصّ قانوني يُحوّل التحسّن إلى التزام، ويُحوّل الوعود إلى قواعد. هذا البند ليس تفصيلاً تجميلياً، بل أداة لإعادة بناء الصدقية: قانون يبدأ بخطة سداد محافظة تحمي البلد من المخاطرة، لكنه يتضمن آلية تلقائية تُسرّع السداد فور تحقق شروط موضوعية قابلة للقياس والتدقيق.

 

رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام يتحدث إلى صحفيين يعملون في وسائل إعلام أجنبية في القصر الحكومي، بيروت، 3 ديسمبر 2025. (أ ف ب)
رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام يتحدث إلى صحفيين يعملون في وسائل إعلام أجنبية في القصر الحكومي، بيروت، 3 ديسمبر 2025. (أ ف ب)

 

الفكرة الجوهرية بسيطة: بدل أن نناقش كل سنة هل تحسّن الوضع؟ هل يمكن التسريع؟ ونعود إلى السجالات نفسها، يصبح التسريع حقّاً قانونياً للمودع حين تتحقق الشروط. أي أنّ القانون لا يعد المودع بـ"معجزة"، لكنه يعده بشيء أهم: إذا تحققت المؤشرات، لن تحتاج الدولة إلى قرار سياسي لتسرّع وتيرة سداد الودائع. التسريع يصبح تلقائياً وملزماً.
كيف يُكتب ذلك عملياً؟ عبر ما يمكن تسميته اختبار الثلاث بوابات؛ ثلاثة شروط متلازمة تُفتح معاً وليس أحدها بديلاً من الآخر. 

البوابة الأولى هي بوابة صندوق النقد: اتفاق على مستوى الخبراء، ثم موافقة مجلس الإدارة، ثم وصول الدفعة الأولى. هذه ليست ضمانة كافية وحدها، لكنها تضع لبنان على سكة إصلاحية مدعومة بمراقبة خارجية. لكن لبنان علّمنا أن الختم الخارجي لا يغني عن الحقيقة الداخلية. لذلك تأتي البوابة الثانية: بوابة الحقيقة المحلية. لا تسريع بلا تدقيق مالي منشور وموثوق في مصرف لبنان والمصارف، ولا تسريع بلا مراجعة نوعية للأصول مصرفاً بمصرف حتى لا تُفرض معاملة موحّدة على مصارف غير متساوية، فيُظلم مودعون في مصرف قادر نسبياً، ويُكافَأ فشل مصرف آخر على حساب الجميع. هذه البوابة تعني: قبل أن نختصر السنوات، علينا أن نعرف من يستطيع أن يدفع، ومن لا يستطيع، ومن يجب أن يُعاد هيكلته أو تصفيته، وأن نثبت ذلك بوثائق لا بخطب (الكلام اللبق).

ثم تأتي البوابة الثالثة: بوابة القدرة على الدفع. وهي الأهم في عين المودع. هنا لا نكتفي بالقول إن الاقتصاد يتحسن. نحتاج شهادة مستقلة بأن مصادر السداد موجودة ومحصّنة: تدفقات مالية مُسيّجة ومخصصة للمودعين، تُختبر عبر سيناريوهات ضغط (اختبارات ضغط) لتفادي التمنيات. فإذا كان تسريع السداد سيُموَّل عبر طباعة نقد أو عبر هندسات تُعيد التضخم وتكسر سعر الصرف، فالتسريع يتحول إلى خدعة: تُعطي المودع اسماً جديداً للخسارة القديمة. لذلك يجب أن يمنع القانون التسريع إذا كان ثمنه إعادة إنتاج الانهيار.

حين تتحقق هذه البوابات الثلاث، ينتقل القانون تلقائياً من الجدول الأساسي إلى الجدول الرديف المُسرّع للسداد. مثلاً: بدل أن يمتد سداد الشريحة المحمية على أربع سنوات، تُختصر إلى سنتين. وبدل أن تمتد الأدوات الطويلة الأجل عشر سنوات تُختصر إلى خمس، وهكذا. الأرقام الدقيقة يمكن تعديلها بحسب الهندسة النهائية، لكن المبدأ ثابت: التسريع ليس كرم دولة، بل نتيجة قانونية لتحقق شروط موضوعية.

الأهم من ذلك: يجب أن يكون التسريع تلقائياً لا تقديرياً أو تلبية لاعتبارات سياسية الغاية منها تحقيق مكاسب وليس خدمة للمودع. أي لا يملك وزير، ولا حكومة، ولا تعميم إداري أن يوقفه أو يفرغه من مضمونه. لذلك يحتاج البند إلى فقرتين حاسمتين: الأولى تقول إن تحقق الشروط يُلزم تعديل الجدول فوراً. والثانية تقول إن أي تعميم أو قرار إداري لا يملك أن يعلّق هذه الآلية أو يُدخل عليها استثناءات. لبنان غرق في سلطة التعميم وسلطة الاستثناء، والمودع يعرف أن الاستثناء هو المقبرة التي تُدفن فيها الحقوق.

وهناك ضمانة ثالثة لا تقل أهمية: قفل التراتبية (تراتبية الحقوق). لا يجوز أن يُستخدم التسريع ستاراً لمخالفة التراتبية عبر تحميل المودع الخسائر قبل استنفاد رساميل المساهمين أو قبل معالجة مسؤوليات الداخلين وأصحاب النفوذ. التسريع الحقيقي هو الذي يُسرّع العدالة أيضاً، لا الذي يُسرّع التصفية على حساب الضحية.

قد يسأل البعض: أليس في ذلك مخاطرة على الاستقرار؟ الجواب: بالعكس. هذا البند يوازن بين الحذر والعدالة. يبدأ بخطة محافظة حتى لا يبيع البلد أوهاماً، لكنه يبني جسراً قانونياً يربط التحسن بالحقوق. وبهذا، يصبح قانون الفجوة المالية أقلّ شبهاً بـتسوية سياسية، وأكثر شبهاً بـعقد اجتماعي مشروط بالحقائق ومحصّن بالحوكمة. 

في النهاية، المودع لا يريد شعارات من نوع سنحمي الودائع والودائع مقدسة ولا يريد تهديداً من نوع خذ ما نعطيك وإلا لا شيء. يريد معادلة واضحة: إن تحسّنت الظروف فعلاً، سيختصر القانون الزمن تلقائياً، وسترجع الحقوق أسرع، من دون مزاج سياسي ولا مساومات. هذه هي الصدقية التي نحتاجها. لأن لبنان لا ينقصه الكلام؛ ينقصه أن يتحول أي تحسن إلى التزام، وأي وعد إلى مادة مُلزمة، وأي برنامج إنقاذ حقيقي إلى حقوق تُستعاد بساعة توقيت وإلتزام، لا بحسن نية.

 

 

*باحث مقيم لدى كلية سليمان العليان لإدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/26/2025 4:54:00 PM
تضمنت رسائل الجماعة في البداية "تهديدات للعلويين بغض النظر عن جنسهم وأعمارهم"
كتاب النهار 12/26/2025 5:20:00 AM
ظل التعايش قائماً على وسائل التواصل الاجتماعي حتى نشر أحد المعلمين في مدرسة طرابلسية فيديو لطفلة من عائلة مسلمة، تقول فيه إنها لا تحتفل بـ"الكريسماس"، لأنه عيد للكفار، فانقلب التعايش فجأة إلى حرب استخدمت فيها كل مفردات التكفير والشيطنة.
اقتصاد وأعمال 12/26/2025 5:12:00 AM
أسعار الذهب عند مستوى قياسيّ جديد!
اقتصاد وأعمال 12/26/2025 4:10:00 PM
تبدو المصارف اللبنانية، وكأنها تنتقل قسراً من نموذج الانتشار الواسع والاعتماد على الرساميل المتدفقة، إلى نموذج مصغر يعتمد على تقليص التكلفة وتقديم خدمات محدودة