زيارة البابا إلى لبنان: بين الرسالة الروحية والدلالات الوطنية والاقتصادية
حسن أيوب*
تحمل زيارة البابا الرابع عشر إلى لبنان بعدًا رمزيًا واستراتيجيًا يتجاوز البعد الديني والروحي، ليشمل مجالات اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية. فهي حدث وطني جامع يرسل رسائل روحية لتعزيز الإيمان والأمل والصمود، وطنية لدعم التماسك والحوار والثقة بالوطن، وسياسية لتشجيع الحوار والاستقرار وتعزيز مكانة لبنان دوليًا. تشكل هذه اللحظة فرصة لإعادة بناء الجسور بين اللبنانيين والعودة إلى روح الرسالة التي نشأ منها لبنان، كما عكست مشاهد الاستقبال الرسمي والشعبي طابعها الوطني الجامع وإشارة إلى المجتمع الدولي بأن لبنان أرض التعددية والعيش المشترك، وحفظه واجب وطني، وفقًا لتأكيد البابا يوحنا بولس الثاني.
السياق التاريخي وأهمية رؤية البابا في المرحلة الراهنة
تُظهر زيارات البابا السابقة إلى لبنان كيف تختلف أهداف وتأثيرات أي زيارة بحسب شخصية البابا والظروف التي تجري فيها. فقد جاءت زيارة يوحنا بولس الثاني عام 1997 في سياق وطني غير مستقر بعد سنوات من الانقسام، وركزت على ترسيخ لبنان كرسالة للتعايش وتعزيز المصالحة الوطنية. أما زيارة بنديكتوس السادس عشر عام 2012، فتمت في ظل اضطرابات إقليمية وتوازن داخلي هش، وركزت على دعم الوجود المسيحي والحفاظ على الهوية الدينية وتعزيز التعايش. تأتي زيارة البابا الرابع عشر في سياق أزمة وطنية شاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية، مستفيدة من خبرة الزيارات السابقة وتعكس اهتمامه بالعدالة الاجتماعية والدفاع عن الفقراء والمهمشين، ما يمنحها بعدًا مميزًا على الصعيدين الوطني والدولي. ومن هنا، يصبح تحليل تأثير هذه الزيارة على المدى القصير والطويل ضروريًا لفهم انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

إجماع المدارس الفكرية على تأثير الثقة في النشاط الاقتصادي
تستند فكرة تأثير الثقة على النشاط الاقتصادي إلى عدة نماذج. وفق كينز (1936)، زيادة الثقة تخفض الادخار وتزيد الاستهلاك، مضاعفة الأثر الاقتصادي. فريدمان (1957) يرى أن الإنفاق يتأثر بتوقعات الدخل المستقبلي، بحيث تعزز الإشارات الإيجابية للثقة الاستهلاك الحالي. أكرلوف وشيلر (2009) يؤكدان أن المعنويات الجماعية تؤثر مباشرة على الإنفاق، والزيارات الرمزية للشخصيات العالمية يمكن أن ترفع التفاؤل العام وتحفّز الاستهلاك. هذه النظريات تبيّن أن الثقة ليست شعورًا معنويًا فقط، بل عامل اقتصادي فعّال يترجم إلى نتائج ملموسة على مستوى الاستهلاك والنمو.
التوقيت الحساس للزيارة والانعكاسات الاقتصادية الأولية
تأتي زيارة البابا في توقيت إقليمي وسياسي حساس، وسط أزمة وطنية شاملة تشمل الجوانب المالية والاجتماعية والسياسية والمؤسساتية والأمنية، ما يجعلها من أعقد الأزمات في تاريخ لبنان الحديث، دولةً ومجتمعًا. يحظى البابا بإجماع داعم للحوار بين الأديان، وتعزيز العدالة والسلام والدفاع عن الفقراء والمهمشين، مع التأكيد على الدور المحوري للكنائس الشرقية في صون الهوية الروحية وحماية كرامة الإنسان.
على الصعيد الاقتصادي، يعاني لبنان، الذي يعتمد على الاستهلاك، ضعفًا مزمنًا في الاستثمار الخاص، بينما يظل صافي تدفق الاستثمار الأجنبي محدودًا، ما يعكس عودة جزئية للثقة الدولية دون تحقيق تعافٍ مستدام. أي تحسّن في ثقة المواطنين أو المناخ العام يمكن أن يزيد الطلب الداخلي ويحفّز النشاط التجاري، لكن تأثيره يظل ظرفيًا ما لم يصاحبه إصلاح هيكلي لتعزيز الإنتاج والاستثمار. وقد أظهرت زيارة البابا انعكاسات أولية إيجابية على الاقتصاد، رغم التهديدات الأمنية والغارات الإسرائيلية والرسائل التحذيرية عبر الإعلام. تجلت هذه الانعكاسات في التحضيرات والاستثمارات المؤقتة لتحسين البنية التحتية، ونشاطات القطاع السياحي والخدماتي، مما ساهم في تعزيز التوظيف المؤقت وتحريك الحركة الاقتصادية. كما أعادت التغطية الإعلامية الوطنية والدولية لبنان إلى دائرة الاهتمام العالمي ورفعت التوقعات الإيجابية بين المستثمرين والسياح، وقد تستفيد بعض القطاعات من النشاط المستمر والشهرة المكتسبة، ما يفتح فرصًا لموسم سياحي أفضل في الأشهر المقبلة.
ما بعد الزيارة: التأثيرات المشروطة والمتوقعة
تمثل زيارة البابا فرصة متعددة الأبعاد للبنان: اقتصاديًا لتعزيز الاستهلاك والنمو، سياسيًا لإرسال إشارات إيجابية للاستقرار وتشجيع الاستثمار، ووطنيًا لتقوية الوحدة والهوية المشتركة. وتظهر التأثيرات الآنية بشكل ملموس، بينما تظل الانعكاسات طويلة الأجل مشروطة بالظروف الأمنية والسياسية وقدرة الدولة على استثمار الحدث ضمن مسار إصلاحي يعزز الاستقرار والثقة الاقتصادية. يمكن استثمار الزيارة لإعطاء دفعة مؤقتة للاقتصاد، لكنها ليست حلًا للأزمة، ولا يمكن الاعتماد عليها إلا كفرصة ضمن استراتيجية أوسع للإصلاح والتنمية المستدامة.
* أستاذ في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال، الجامعة اللبنانية
نبض