برنت في 2026 يبدّل قصته: فائض المعروض يسحب البساط من الجغرافيا السياسية
لا يدخل خام برنت العام الجديد محمولًا على صدمةٍ جيوسياسية فقط، بل على فائضٍ مادي يفرض منطقه بهدوء. بعد استقرار نسبي في 2025، انخفض برنت إلى نحو 58 دولاراً للبرميل في كانون الأول/ ديسمبر، في إشارة مبكرة إلى أن السوق عادت لتسعير الأساسيات قبل العناوين. وبين معروض ينمو أسرع من الطلب، وضغطٍ مناخي يعيد تشكيل الاستثمار، يتقدم سيناريو منخفض النبرة لكنه ثقيل الأثر.
عندما يخفت صوت العناوين… يتكلم المخزون
ما حدث في نهاية 2025 لم يكن انهياراً مفاجئاً بقدر ما كان تبدلاً في المزاج. في سنواتٍ سابقة، كانت أي شرارة سياسية كافية لإشعال علاوة إخطار طويلة، أما اليوم فالسوق تبدو أقل قابلية للانفعال، لا لأن الأخطار تلاشت، بل لأن البراميل وفيرة بما يكفي لتأجيل الخوف. تراجع السعر إلى حدود 58 دولاراً للبرميل في كانون الأول لم يأتِ بعد انفراج كبير في الملفات الساخنة، بل جاء لأن نمو المعروض بدأ يتقدم على نمو الطلب بصورة تُضعف مفعول التوترات في التسعير. هنا تصبح الرسالة أهم من الحركة: السوق لا تقول إن العالم أكثر أماناً، بل تقول إن الفائض يملك القدرة على كبح العلاوة، ما لم تتحول الأخطار إلى انقطاع فعلي في الإمدادات، لا مجرد ضجيج.
والأثر الفوري لهذا التحول يظهر في حساسية التسعير لأي بيانات مخزون وفي سرعة تلاشي الارتدادات. حينما يهيمن فائض العرض، يصبح كل صعود بحاجة إلى محفز أقوى من المعتاد، بينما يكفي خبر طلبٍ أضعف أو إمدادات أعلى كي يعيد السعر إلى نطاق أقل. في هذا المناخ، يدخل 2026 بسؤال بسيط: هل يملك السوق سببا متيناً كي يدفع برنت للأعلى، أم أن سبب الهبوط صار هو الوضع الطبيعي؟
مليونا برميل يومياً فائضاً… و55 دولاراً كمتوسط مرجّح
الممر الذي تسير فيه السوق إلى 2026 يبدأ من رقمين ثقيلين: حجم الفائض وسقف الطلب. تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية تميل إلى أن فائض المعروض قد يتخطى مليوني برميل يومياً في 2026، وهي فجوة كافية لإبقاء المخزونات في مسار صاعد ما لم تُواجَه بخفض إنتاجي أعمق أو تسارع مفاجئ في الطلب. وبالمنطق نفسه، تذهب توقعات الجهة ذاتها إلى أن متوسط سعر برنت قد يتراجع نحو 55 دولاراً للبرميل خلال 2026، وهو مستوى يعكس سوقاً لا تعاني نقصاً، بل تدير وفرةً وتختبر حدود قدرة المنتجين على الدفاع عن السعر.
في المقابل، يبقى نمو الطلب العالمي عند حدود أكثر تواضعاً، قريباً من 1.2 مليون برميل يومياً وفق تقديرات متداولة، تقوده آسيا النامية وعلى رأسها الصين، فيما يبدو استهلاك الاقتصادات المتقدمة أقرب إلى الركود. هنا تتشكل معادلة مزدوجة: الطلب لا ينهار، لكنه لا يكبر بما يكفي لابتلاع المعروض المتزايد. ومع هذه المعادلة، يصبح منحنى الأسعار أداة ضغط إضافية؛ لأن سوقاً محمولة على فائض تميل إلى تسعير الراحة في الإمدادات، فتضع سقاً لأي ارتفاع قبل أن يصل إلى الاقتصاد الحقيقي على شكل حافز استثماري.

الولايات المتحدة ترفع السقف… والصين تشتري ببرودة
الخلفية التي تُفسر هدوء السوق أمام التوترات ليست سياسية فقط، بل إنتاجية كذلك. الولايات المتحدة تواصل تسجيل مستويات إنتاج قياسية، ما يضيف طبقة أمان للمعروض العالمي، ويجعل أي اضطراب إقليمي أقل قدرة على خنق السوق سريعاً. في الوقت نفسه، تتحرك الصين بمنطق مختلف: بناء احتياطيات استراتيجية لامتصاص جزء من الفائض، لا بوصفه رهاناً على صعود قريب، بل بوصفه إدارةً للأمن الطاقي بأسعار أفضل. هذا السلوك يخفف ضغط الفائض في لحظات، لكنه لا يغيّر القصة إذا بقي المعروض يتقدم على الطلب على امتداد العام.
أما أوبك+، فتقف في منتصف معضلة قديمة تتكرر بصيغ جديدة: خفض الإنتاج يدعم السعر لكنه يفتح الباب أمام المنافسين لالتقاط الحصة، والإبقاء على الإمدادات يحمي الحصة لكنه يطيل دورة الأسعار المنخفضة. وفي سوق تسعر فائضاً لا نقصاً، تصبح قرارات التحالف دفاعية بطبيعتها، هدفها كبح الهبوط أكثر من صناعة صعود.
الجغرافيا السياسية: أخطار صعودية… لكن الاتجاه العام يميل إلى زيادة الإمدادات
في 2026، تبدو الجغرافيا السياسية أقل قدرة على فرض علاوة دائمة، لكنها لا تختفي من المشهد. استمرار التوترات الجيوسياسية في أوكرانيا والعقوبات على موسكو لم يُترجم إلى نقص حاد في المعروض كما كان يُخشى في بدايات الصدمة، لأن فائض المعروض العالمي عوّض جزءاً كبيراً من أثر الاضطراب. أي انفراج سياسي محتمل بين روسيا وأوكرانيا قد يفتح الباب أمام زيادة تدريجيّة في الإمدادات الروسية، لكن أثرها القريب قد يكون محدوداً إذا جاءت على مراحل وبقيت القيود قائمة بأشكال مختلفة.
وعلى الهامش، ساهم تخفيف بعض القيود على فنزويلا في زيادة طفيفة بالصادرات، وهو عامل صغير في الحجم، لكنه ينسجم مع صورة عام يميل إلى إضافة براميل أكثر مما يميل إلى سحبها.
الخلاصة الجيوسياسية تبدو هادئة في ظاهرها ومشروطة في جوهرها: الأخطار موجودة، لكنها تحتاج إلى صدمة كبيرة كي تعكس اتجاه سوق أساسها وفرة.
المناخ والتحول الطاقي: ضغط بطيء على الاستثمار… لا صدمة فورية على الطلب
الضغط المناخي لا يعمل مباشرة بخفض الطلب غداً، بل كرافعة تغير شكل الاستثمار اليوم. رغم تكثيف الجهود العالمية للتحول إلى الطاقة النظيفة، لا يزال الطلب على النفط ينمو ولم يبلغ ذروة واضحة بعد. غير أن سردية ذروة الطلب وسياسات المناخ دفعت، منذ 2020، إلى تراجع ملموس في الاستثمار في المشاريع النفطية الجديدة، ما يزرع احتمال نقص في المعروض على المدى الأبعد إذا استمر الطلب بالصعود.
لكن هذا الخطر البعيد لا يُرجح أن يظهر بوضوح في 2026 لسبب بسيط: وفرة الإمدادات الحالية تمنح السوق وقتاً، وقدرةً على تأجيل القلق. المفارقة أن المناخ يضغط على المنتجين من جهة الاستثمار والتمويل واللوائح، بينما يضغط فائض المعروض على السعر من جهة التسعير الفوري، فتجد الصناعة نفسها بين كفّين: الحاجة إلى إنفاق يحافظ على القدرة الإنتاجية، وحساسية السوق لسعر منخفض يقلص الحوافز.
من يدفع الثمن ومن يلتقط الفرصة: النفط الرخيص ليس مجاناً
في سيناريو أسعار أقرب إلى منتصف الخمسينات، المستوردون يربحون هواءً إضافياً: فاتورة أقل، وتضخم أهدأ، ومساحة أكبر للإنفاق في اقتصادات تعاني أصلاً من تباطؤ. قطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة قد تستفيد عبر تحسن هوامش الربحية، لكن هذا التحسن مشروط بألا يتحول ضعف النمو إلى ركود يأكل الطلب ويضغط على المبيعات.
في المقابل، المنتجون الأعلى كلفة يتعرضون لضغط مزدوج: سعر أقل يضغط على التدفقات النقدية، ومناخ تمويلي أكثر انتقائية يرفع كلفة رأس المال ويصعّب التوسع. أما الدول التي تحتاج سعرا أعلى لتوازن ماليتها العامة فستتعامل مع 2026 بوصفه عاما يتطلب إدارة مالية أكثر صرامة، أو دفاعاً إنتاجياً عبر أوبك+ إذا بدا أن الهبوط يخرج عن السيطرة.
2026 بثلاثة مسارات: قاعدة منخفضة، مفاجأة صاعدة، واحتمال انحدار أعمق
المسار الأساسي، وفق معظم المؤشرات التي تتحدث عن فائض يتجاوز مليوني برميل يومياً، هو بقاء برنت في نطاق أدنى من الأعوام الماضية، قريباً من متوسطات حول 55 دولاراً للبرميل، مع ارتفاع المخزونات وضعف نمو الطلب.
المسار المتفائل يحتاج محفزاً ملموساً لا مجرد إشارات: خفض إنتاج أعمق ومتسق من أوبك+ ينجح في تحويل المخزونات إلى مسار هابط؛ رغم عدم وجوده حالياً ضمن فرضيات المنظمة في الوقت الحالي، أو تحسن مفاجئ في النمو العالمي يرفع الطلب بوضوح، أو تعطّل فعلي في الإمدادات يقيد الصادرات ويغيّر معادلة التوازن. أما المسار السلبي فيتجسد إذا تزامن فائض المعروض مع ركود عالمي معتدل في الولايات المتحدة وأوروبا، ومع تباطؤ أكبر في تعافي الصين، حينها يتحول فائض اليوم إلى تخمة أطول، وتصبح أي ارتدادات مجرد توقفات قصيرة داخل اتجاه هبوطي أطول نفسًا قد يدفع الأسعار لمزيد من التراجعات نحو مستويات 48 ثم 45 دولارًا للبرميل.
** رئيس الأبحاث وتحليل الأسواق في مجموعة إكويتي
نبض