بعد عقود من الهدر: هل ينقذ القطاع الخاص قطاع الكهرباء في لبنان؟
على مدى عقود، أنفق اللبنانيون المليارات على قطاع لم ينتج إلا العتمة. فالدولة موّلت معامل لم تكتمل، وخططاً لم تُنفذ، فيما بقي التيّار مقطوعاً، وتراكم الهدر بلا محاسبة.
والأفدح أن اللبنانيين دفعوا ثمن الكهرباء مرتين. مرة عبر دعم مؤسسة الكهرباء الذي استنزف الخزينة، ومرة عبر المولدات الخاصة التي حلت مكان الدولة، من دون أن يحصلوا في الحالتين على خدمة عامة مستقرة أو عادلة، الى أن تحوّل قطاع الكهرباء في لبنان إلى آلة هدر مزمنة، تستهلك التمويل من دون أن تنتج كهرباء، وتبتلع القروض من دون أن تولد ثقة.
والسؤال المطروح: إن كانت الدولة عاجزة، فلماذا نمنع النجاح؟ فـتجربة كهرباء زحلة أثبتت، ضمن إطار من الشراكة مع القطاع الخاص، أن التغذية المستقرة والجباية المنتظمة ممكنتان عندما تتوافر الإدارة الفعالة، والشفافية، والمحاسبة. وما بين قطاع كهرباء أنهك المالية العامة، ونموذج محلي أثبت قابليته للحياة، يبرز سؤال آخر عن سبب التأخر في الانتقال إلى شراكة حقيقية مع القطاع الخاص تعيد تعريف دور الدولة وتنقذ اللبنانيين من العتمة الدائمة.
الشراكة مع القطاع الخاص؟
اليوم، يعود ملف إصلاح قطاع الكهرباء في لبنان إلى الواجهة، من بوابة التمويل الدولي وشروطه، في ظل عجز الدولة عن تحمّل كلفة إعادة بناء القطاع المنهار.
فقرض البنك الدولي المخصص لقطاع الطاقة، والبالغ 250 مليون دولار، يُنظر إليه كخطوة تقنية ضرورية، لا سيما لجهة إعادة تأهيل البنى التحتية الأساسية، وفي مقدمها مركز التحكم في مؤسسة كهرباء لبنان، الذي يشكل حجر الأساس لإدارة الشبكة وضبط الإنتاج والتوزيع. غير أن وزير المال ياسين جابر يؤكد أن هذا التمويل، على أهميته، لا يكفي لمعالجة عمق الأزمة، ما يستدعي "البحث عن شراكات مع القطاع الخاص ضمن أطر واضحة ومستقرة، قادرة على جذب الاستثمارات وتقليص المخاطر".
لكن هذه المقاربة تضع الإصبع على معضلة مزمنة. فالشراكة مع القطاع الخاص لا يمكن أن تُبنى على أرضية مهترئة. ومن هنا، يشدد وزير المال على شرطين لا بد منهما لإنجاح أيّ مسار إصلاحي أولهما نشر الحسابات المالية المدققة لمؤسسة كهرباء لبنان، وثانيهما تفعيل الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء بصورة فعلية، بما يتجاوز الشكل إلى الممارسة التنظيمية الكاملة. فبدون الشفافية والتنظيم، يتحول أي تمويل جديد إلى حلّ موقت يعيد إنتاج الأزمة بدل معالجتها.
في المقابل، يذهب الخبير الاقتصادي باتريك مارديني أبعد في تشخيص المعضلة، فالمشكلة في رأيه "لا تكمن فقط في ضعف التمويل أو غياب الشفافية، بل في النموذج المركزي الذي لا يزال يحكم التفكير بقطاع الكهرباء". ويرى أن "المقاربة الحالية، بما فيها القروض الدولية، تنطلق من افتراض بقاء مؤسسة كهرباء لبنان بصيغتها الحالية إلى أجل غير مسمّى، فيما الواقع يشير إلى مسار معاكس، يقوم على التفكيك التدريجي وفتح المجال أمام المنافسة".
ويشرح مارديني أن "تدمير مركز التحكم إثر انفجار مرفأ بيروت حوّل إدارة الشبكة إلى عملية عشوائية، تدار عبر الاتصالات الهاتفية بدل الأنظمة الرقمية، ما أدّى إلى أعطال متكررة وانهيارات موضعية في الشبكة". لكنه يحذر من أن "إعادة تأهيل هذا المركز، على أهميتها، لا ينبغي أن تتحول إلى إعادة ضخ أموال في بنية عاجزة، بل إلى فرصة لإعادة تعريف دور الدولة، ولا سيما في قطاع النقل، الذي يمكن أن يدار عبر شركة خاصة تموّل استثماراتها من عائداتها التشغيلية".
ومع تشكيل "الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء" التي يؤمل أن تسهم في معالجة معضلة الكهرباء، يرى مارديني أنها "تمتلك، نظرياً، صلاحيات واسعة تسمح لها بترخيص مشاريع الطاقة المتجددة وأنظمة الفوترة المتقدمة من دون تحميل الدولة أعباء مالية إضافية". ويشير إلى أن "نماذج ناجحة لهذه المشاريع موجودة بالفعل في لبنان، سواء على مستوى الإنتاج اللامركزي أو الفوترة الذكية، حيث يستطيع المشترك مراقبة استهلاكه والدفع إلكترونياً، مع إمكان إدارة التغذية عن بعد".
ومن هنا، يدعو إلى الانتقال من نهج "من فوق إلى تحت"، الذي اعتمدته الحكومات السابقة وأثبت فشله، إلى نهج "من تحت إلى فوق"، ينطلق من تعميم التجارب الناجحة القائمة، وتنظيمها بدل محاصرتها"، معتبراً أن "تمكين الهيئة الناظمة لا يقتصر على تعيين أعضائها، بل يتطلب تزويدها بالإمكانيات البشرية والمالية واللوجستية اللازمة لأداء دورها".
غير أن نقطة الالتقاء الأبرز بين مقاربة الوزير جابر ورؤية مارديني تكمن في ملف الجباية، الذي يعد المدخل الأساسي لأي إصلاح مستدام. فوفق هذا التصور، لا يمكن بناء قطاع كهرباء قابل للحياة من دون تحصيل الفواتير كاملة، ومن دون سرقات. ويرى مارديني أن "فصل التوزيع عن الجباية، وتكليف جهات متخصصة بالتحصيل، يشكل حجر الأساس لتأمين تدفقات مالية منتظمة، تتيح للدولة دفع مستحقات شركات الإنتاج والنقل والتوزيع، من دون اللجوء إلى دعم عشوائي أو تمويل دائم".
نبض