لا يختلف اثنان على ما يمكن أن تشكله محافظة عكار من قيمة مضافة على صعيد الاقتصاد الوطني العام والتنمية المستدامة، في حال أحسن توظيف كل مقدراتها البشرية والزراعية والاقتصادية واستثمارها بشكل مجدٍ، من ضمن خطة استراتيجية وطنية تعطي هذه المنطقة حقها الواجب على الدولة ومؤسساتها في دعم نهوضها في شتى المجالات التنموية، وهي التي تشكل 1\8 من مساحة لبنان جغرافياً وديموغرافياً. 

تفاح عكاري فائق الجودة. (ميشال حلاق)

هذه المحافظة تتحلى بميزات كبيرة جداً على الصعد المختلفة، شاطى بحري بطول 16 كيلومتر، وامكان استحداث مرفأ تجاري، ومخزون نفطي كبير واعد براً وبحراً وموارد مائية كافية (أربعة أنهر) ومئات الينابيع العذبة،  وتنوع مناخي مثالي بين الساحل والوسط والجرد، وحدود برية مع سوريا بطول حوالى 100 كيلومتر، الى حضور مطار مثالي (مطار الرئيس رينيه معوض في القليعات) ثمة نيات جدية لاعادة تأهيله وتشغيله، وسكة حديد قادرة على ربط لبنان بالعالم العربي عبر سوريا، الى إرثٍ تراثي أثري غني، غابات ومساحات خضراء، ومناطق ومرافق سياحية متميزة والى جانب كل هذا، طاقات بشرية متعلمة ومنتجة في كل الميادين.

من المعروف ان عكار منطقة زراعية بالدرجة الأولى وتتنوع فيها الزراعات على اختلافها، بفعل تكوينها الطبيعي والمناخي ساحلاً ووسطاً وجبلاً . وهي مؤهلة لأن تشكل مركز استقطاب للتصنيع الزراعي الغذائي بما يساهم في حل مشكلة تصريف الانتاج الذي يشكو منه المزارعون.

من مطبخ

مبادرات فردية على طريق التصنيع الغذائي
وثمة مبادرات فردية مشجعة في هذا السياق من شأنها النمو في حال  توفير الدعم اللازم لجهودها وتشجيعها بما يسمح بتعميم تجارب هذه المبادرات ومنها، ما تقوم به "مؤسسة انسان" في القبيات والتي انشأت مطبخاً بمواصفات الجودة العالية، وباشرت منذ أعوام تصنيع منتجات زراعية محلية وتسويقها في لبنان والخارج، إضافة الى براد زراعي قريب لحفظ المنتجات الزراعية.

 ويذكر أن تعاونيات زراعية إنتاجية عدة في عكار، ساهمت في تشجيع هذه الصناعات الغذائية عبر إعداد ورش عمل وتدريب الراغبين في دخول هذا المضمار المنتج، إلا أنها تنتظر تكاملها مع خطة رسمية تدعم هذا القطاع وتمد إليه يد العون بفتح أسواق خارجية لتصريف إنتاجه.

فجوة بين غنى الأرض وفقر أهلها
وفي هذا السياق، يقول الدكتور عبدالرحيم ابراهيم  الخبير المتخصص في الجغرافيا الساحلية وعلوم البحار لـ"النهار" :"أحياناً لا تحتاج الحقيقة إلى صراخ كي تُفهم؛ يكفي أن تمرّ بموسم زراعي واحد في عكار لتدرك حجم الفجوة بين غنى الأرض وفقر أهلها. سهل عكار، أحد أكبر السهول الزراعية على الساحل الشرقي للمتوسط بمساحة تتجاوز 450 كلم² تشقّه أربعة أنهار دائمة الجريان، وتغذّيه تربة خصبة ومناخ متوسطي مشمس، ومع ذلك لاتزال المنطقة تُصنَّف بين الأكثر حرماناً في لبنان على مستوى البنى التحتية والخدمات والفرص الاقتصادية".

تصنيع محدود للإنتاج الزراعي.

يضيف: "تمتد محافظة عكار على نحو 788 كلم²، ويقطنها ما يزيد عن نصف مليون شخص، بينهم عشرات آلاف النازحين. ورغم أن الزراعة تشكل ما يصل إلى 70٪ من النشاط الاقتصادي في المناطق الريفية، فإن دخل المزارع يبقى هشاً ومتذبذباً يتأثر بالأسعار والوسيط والسوق، وليس بقيمة الإنتاج ولا بجودته".

ويلفت الى أن "في كل موسم، تتكرر الصورة نفسها: حقول مليئة ومحاصيل وافرة، تقابلها جيوب فارغة وحيرة واضحة. البطاطا، البندورة، التفاح، الليمون، الخيار والعنب… تُباع أحياناً بأقل من تكلفة إنتاجها، تُرمى على الطرق أو تترك لتفسد لأنها لم تجد مصنعاً يشتريها أو مخزناً يبرّدها أو خطة تُنظّم استثمارها. المشكلة ليست في الإنتاج، بل في غياب الصناعة والقيمة المضافة".

عكار تنتج الغذاء لكنها لا تنتج الثروة
ويرى "أن هذا المشهد يكشف مفارقة مؤلمة: عكار تنتج الغذاء، لكنها لا تنتج الثروة. تزرع الأمل لكنها لا تحصد حقّ أبنائها في العمل. تصدّر خيراتها إلى باقي لبنان، بينما تبقى خارج خارطة التنمية، في أدنى القائمة من حيث الخدمات الصحية، الفرص الوظيفية، والبنى الاقتصادية".

والسؤال البديهي هو: لماذا لم تتحول هذه الثروة الزراعية إلى نهضة صناعية؟

فسهل عكار هو ثاني أكبر كتلة إنتاج زراعي في لبنان، ومع ذلك لا يوجد مصنع واحد كبير للعصائر، ولا معمل لتجفيف الخضر أو رقائق البطاطا، ولا منظومة تصنيع زراعي متكاملة تحفظ المحاصيل من الإهدار وتحولها إلى منتجات قابلة للتسويق والتصدير.

هنا يتضح جوهر الحل: الانتقال من منطق الزراعة التقليدية إلى اقتصاد تصنيع زراعي متكامل. مصانع للعصائر والمربيات ومعجون الطماطم، وحدات لتجفيف الأعشاب والخضر، خطوط إنتاج لمشتقات الحليب وزيت الزيتون، تربية النحل وانتاج العسل،  ومرافق تخزين مبرد وتصنيع غذائي تمنع انهيار الأسعار وتوفر فرص عمل جديدة، على حد قوله.

عناصر نجاح الاستثمار متوافرة
ولمن يسأل  لماذا الاستثمار في عكار؟  يجيب:" لأن عناصر النجاح موجودة وهي :
• أراضٍ واسعة وبأسعار مخفوضة تسمح بإقامة مشاريع كبيرة بتكلفة ممكنة.
• يد عاملة خبيرة في الزراعة والحرف الريفية، تحتاج فقط تدريباً بسيطاً في الجودة والتصنيع والتسويق.
• موقع استراتيجي يطل على البحر ويجاور الحدود والأسواق ومرفأ طرابلس، ومع تشغيل مطار القليعات ستصبح عكار بوابة لوجستية مثالية للتصدير.
• موارد طبيعية مستدامة تشمل أنهراً دائمة الجريان وشمساً ورياحاً يمكن أن تتحول إلى طاقة نظيفة تشغّل المصانع بتكلفة مخفوضة".

زيتون الموسم الأخير.

ومع ذلك، ما يُقدّم الى عكار لا يشبه التنمية. في كل انتخابات ينشط "الكرم السياسي"، تُضاء بعض الشوارع، تُوزّع مولدات، تُحفر آبار، وتُلتقط الصور ثم يختفي كل شيء. الأسوأ أن  هذا الإنفاق المريب، لا يستثمر في  بناء اقتصاد محترم يحفظ كرامة الناس.

فأهل عكار لا يريدون إعانات، بل يريدون فرصاً للنهوض. ما نحتاجه هو فتح الأبواب أمام الاستثمار لا فتح كاميرات الانتخابات وخزائن المرشحين، يضيف إبراهيم.

ويبقى السؤال الأخير، وهو سؤال ضمير قبل أن يكون سؤال اقتصاد:
 إلى متى تبقى عكار خزان إنتاج بلا مصانع؟
ومتى تتحول الوفرة من عبء إلى فرصة، ومن موسم عابر إلى مستقبل مستدام؟
الجواب لا يحتاج الى وثائق… بل الى قرار واضح.