إخضاع المستفيدين من الدعم والتحويلات للتدقيق الجنائي... "المركزي" يحضر لاختيار شركة من خلال "الشراء العام"
شكل ملف الدعم الذي اعتمدته الدولة بعد 17 تشرين الأول 2019 أحد أكثر الملفات تعقيداً وإثارة للجدل، ولاسيما في ظل الانهيار المالي الذي أطاح العملة الوطنية وقلص احتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبية. ففي حين استنزفت مليارات الدولارات على دعم السلع الأساسية، تبين لاحقا أن قنوات الصرف لم تكن محكمة، وأن جزءا كبيرا من الدعم لم يصل إلى اللبنانيين كما خطط له، بل تسرب عبر التهريب، أو ذهب إلى مستفيدين خارج الإطار الطبيعي، أو صرف ضمن نفقات الدولة من دون وضوح كاف في المسارات وأسباب الاستحقاق، بما يطرح علامات استفهام كبيرة حول إدارة هذا الملف.
في هذا السياق، يشكل القانون رقم 240/2021 الإطار التشريعي الأساسي الذي يفرض إخضاع جميع المستفيدين من الدعم للتدقيق الجنائي، بما يتيح تحديد وجهة الأموال بالدقة المطلوبة، ويكشف مدى التزام المستفيدين القوانين والضوابط. وتزداد أهمية تنفيذ هذا القانون في ظل تعديلات جوهرية طالت القوانين المتصلة بالسرية المصرفية، والشراء العام، والإجراءات الضريبية، ما أوجد بيئة قانونية أكثر ملاءمة لتطبيق التدقيق من دون عوائق.
ومع تصاعد الحاجة إلى كشف كيفية استنزاف الاحتياطات، بدا التنسيق بين وزارة المال ووزارة العدل ومصرف لبنان محوريا، للوصول إلى آلية شفافة وموحدة، تضمن واحدا من أهم أهداف المرحلة: إعادة بناء الثقة بالنظام المالي والنقدي من خلال تظهير حقيقة ما جرى، بالأرقام والوثائق، ووفق معايير تدقيق دولية.
من هنا، عرضت وزارة المال على مجلس الوزراء آلية تنفيذ القانون، بالتعاون مع وزارة العدل، وبناء على المستندات القانونية المتعددة التي أعادت تحديد مفهوم السرية المصرفية وكيفية رفعها لمقتضيات التدقيق، فضلا عن القوانين الناظمة للشراء العام والإجراءات الضريبية. وفي ضوء هذه المعطيات وافق مجلس الوزراء على مقترح الوزارتين، بما يفتح الباب أمام مرحلة تدقيق شاملة في مسارات الدعم والتحويلات والنفقات، على أسس مهنية واضحة.
اطلع مجلس الوزراء على المستندات القانونية المتصلة بآلية إخضاع المستفيدين من دعم الدولة للتدقيق الجنائي، وفي مقدمها القانون رقم 240 تاريخ 16/7/2021 الذي نص صراحة على وجوب قيام وزارتي العدل والمال باقتراح آليات تنفيذية تعرض على مجلس الوزراء خلال شهرين. وقد حدد القانون فئة المستفيدين بأنهم التجار، والمؤسسات، والشركات، والجمعيات، وغيرهم ممن حصلوا على دعم بالدولار الأميركي أو ما يعادله بعد 17 تشرين الأول 2019 وحتى تاريخ وقف الدعم، أي تاريخ توقف مصرف لبنان عن تأمين العملات الأجنبية للمستوردين والمصنعين وفق السعر الرسمي.
وخلال جلسة مجلس الوزراء، عرض وزير المال نتيجة التشاور مع وزير العدل وحاكم مصرف لبنان، الذي خلص إلى أن يتولى مصرف لبنان إجراء مناقصة لاختيار شركة تدقيق جنائي ذات معايير دولية لإجراء تدقيق من شقين:
- الأول: تدقيق جنائي يشمل جميع المستفيدين من الدعم الممول من احتياطات مصرف لبنان.
- الثاني: تدقيق جنائي في التحويلات التي جرت إلى حسابات المصارف في الخارج، وفي النفقات التي سددها المصرف نيابة عن الدولة.
وأوضحت وزارة المال في الأسباب الموجبة للاقتراح أن مصرف لبنان اتخذ مسبقا قرارا بإجراء التدقيق المتعلق بالتحويلات، وأن قيام الوزارة بإعداد دفتر شروط منفصل للجزء المتعلق بالدعم سيحمّل الخزينة نفقات إضافية. كما أشارت إلى أن المستندات والقيود الأساسية للتدقيق موجودة لدى مصرف لبنان، وأن رغبة الحاكمية في توضيح أسباب استنزاف الاحتياطات بالعملات الأجنبية تنفي أي تضارب مصالح.
وبحسب الاقتراح، ستعين وزارتا المال والعدل مندوبين بصفة خبراء لعضوية لجان فض العروض وقبول الأعمال، وفقا لما يتيحه قانون الشراء العام (القانون 244/2021)، وذلك ضمانا للشفافية ومطابقة الإجراءات للأصول القانونية.
وقد وافق مجلس الوزراء على الاقتراح المشترك للوزارتين، على أن يزوّد الآليات التنفيذية التفصيلية فور الانتهاء من فض العروض واعتماد الشركة المكلفة.
موقف مصرف لبنان
إلى ذلك، أكدت مصادر متابعة أن "مصرف لبنان خسر جزءا من احتياطه منذ تشرين الأول 2019 وحتى عام 2023، وهي عمليا ملك للمودعين، ما دفع المجلس المركزي الجديد إلى اتخاذ قرار بإجراء تدقيق شامل في الأموال التي صرفت بالدولار النقدي. وأظهرت البيانات الأولية أن نحو 9 مليارات دولار ذهبت إلى دعم السلع الأساسية وفق طلب الحكومة، فيما صرفت مبالغ أخرى على نفقات الدولة، بينها مدفوعات للكهرباء وصناديق القروض والصناديق الدولية.
وبحسب المصادر، فإن جزءا من السلع المدعومة لم يوزع في السوق المحلية، بل جرى تهريب بعضه عبر الحدود أو بيعه في أسواق خارجية، خصوصا في ما يتعلق بالفيول والقمح والدواء والمواد الغذائية. وتضيف أن "الدعم لم ينفذ بالطريقة الصحيحة، إذ كان ينبغي اعتماد دعم مباشر، فيما سمح النظام المعتمد باستغلاله واستنزاف احتياطات المصرف. مع الإشارة إلى أن دور مصرف لبنان كان تنفيذيا فقط، فيما حكومة الرئيس حسان دياب هي من قرر الدعم وهوية الشركات التي ستستفيد".
ويشمل التدقيق أيضا عمليات التحويل إلى المصارف في الخارج، والنفقات المتصلة بالدولة، بهدف تظهير المسارات المالية بدقة، وتحديد الأسباب الجوهرية التي أدت إلى استهلاك جزء من الاحتياط. وتؤكد المصادر أن "النتائج ستبنى عليها خطوات وإجراءات قانونية تبعا لما تقتضيه الأصول"، وأن "المناقصة ستطرح من خلال هيئة الشراء العام في وقت قريب بطريقة شفافة ووفقا للأصول".
نبض