إعادة الإعمار في سوريا فرصة استثمارية كبيرة ما زالت محفوفة بالأخطار
أنطوني نعيم
تُعَد عملية إعادة الإعمار في سوريا فرصة استثمارية كبيرة ومعقدة في آنٍ واحد، وقد وفرت التطورات السياسية والاقتصادية الأخيرة إمكانات فريدة للاستثمار في بلد دمرته سنوات من الحروب. وتُقدّر احتياجات التعافي بين 250 و 400 مليار دولار، ما يجعلها مهمة تمتد لعقود وتتطلب رؤوس أموال وخبرات أجنبية في كل القطاعات.
إعمار االبنية التحتية هو أكبر وأكثر الفرص الاستثمارية إلحاحاً. فإعادة إعمار ما خلفه الدمار الكارثي في قطاعات السكن والنقل والمرافق العامة تتطلب ضخ رؤوس أموال كبيرة، وهي جهود مدعومة حالياً بالتزامات تمويلية من دول الخليج والمؤسسات المالية الدولية. ولعلّ أبرز العوامل التي تشّجع هذا الإستثمار تكمُن في التحول السياسي الكامل، فضلاً عن تخفيف العقوبات الدولية بشكل تدريجي وتدفق رؤوس الأموال بقيادة دوَل إقليمية.
وتتوقف جهود إعادة الإعمار على تأهيل قطاع الطاقة الذي جذب استثمارات بقيمة 7 مليارات دولار، وبناء شبكات النقل الأساسية، الجوي والبحري والبري كي يتم ربط البلاد بالخارج، ما يسهِّل استيراد المواد اللازمة لتطوير الدولة. وتظهر تركيا حالياً كلاعب محوري في تلك المهمة، مستغلةً تحسن العلاقات الديبلوماسية لتوجيه مشاريع في قطاعات عدّة، ويُعتبر استئناف الرحلات من اسطنبول إلى دمشق وحلب بعد 14 عاماً من الانقطاع، رمزاً ملموساً لهذه الشراكة الجديدة. أما قطر فقد اختارت الاستثمار في المرافق الجوية مقدمةً مشروعاً بقيمة ٤ مليارات دولار لتحديث مطار العاصمة.
في السياق نفسه، أتت الإمارات لتستثمر بمبلغ 800 مليون دولار في تطوير ميناء طرطوس ذي الأهمية الاستراتيجية، كما ستقوم بإنشاء نظام مترو جديد بقيمة ملياري دولار.
ودوافع هذا التدفق السريع والكبير لرؤوس الأموال ليست اقتصادية فحسب، بل تعكس سباقاً على الصعيد الجيوسياسي للسيطرة على النفوذ في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وتدفع البلاد نحو أنظمة إقليمية قوية مثل الخليج. فتطوير المرافق الجوية والبحرية، والتحكم بملف الاتصالات الموجود بِيَد المملكة العربية السعودية يمنح الدوَل نفوذاً على بوابات سوريا الرئيسية من ناحية البيانات والبضائع والأشخاص. من جهة أخرى، يُلاحظ أن توجه الحكومة الجديدة في دمشق يقضي بإبعاد السيطرة الإيرانية، فقد وافقت على مشروع البنك الدولي بمنحة أولية تبلغ 146 مليون دولار لاستعادة البنية التحتية الأساسية للكهرباء وربط الشبكات السورية بتركيا والأردن متحررةً بذلك من اعتمادها السابق على إيران.
في المقابل، لا بد من التطرق إلى بعض الحواجز التي يمكن أن تعوق هذا الإعمار، ومنها الأخطار السياسية، إذ أن الحكومة الانتقالية تواجه صعوبات في بسط سيطرتها الكاملة وإدارة شؤون البلاد ما يجعل مسار الاستقرار السياسي غير مؤكد. بالإضافة إلى ذلك، تظهر مشاكل الفساد والنفوذ الواسع للشبكات السريّة في بعض المؤسسات العامة، إلى جانب ضعف الأنظمة القضائية في تطبيق القوانين وحل النزاعات بشكل عادل. أما بالنسبة إلى الأخطار الأمنية، فلا يزال الوضع الأمني هشاً بسبب استمرار وجود الجماعات المسلحة والتوترات الطائفية، علاوةً على التدخل العسكري الخارجي مثل الغارات الجوية الإسرائيلية. ومع ذلك، تسعى دمشق إلى وضع استراتيجية للحد من تلك المشاكل عبر ضبط مسار التضخم واستقرار الليرة السورية والانفتاح نحو برامج البنك الدولي وصندوق النقد. كما تواصل الحكومة الجديدة مساعيها لخفض حدّة العمليات العسكرية في سوريا واحتواء تمرّد الجماعات المسلحة، ما شجّع الرياض مثلاً على تقديم مشاريع عقارية بقيمة 3 مليارات دولار تشمل أبراجاً سكنية ومراكز تجارية.
وكانت الحكومة السورية أعلنت في الرابع من أيلول/سبتمبر عن تأسيس "صندوق التنمية السوري" بموجب مرسوم رئاسي كهيئة سيادية وطنية تهدف إلى تعبئة الموارد وتوجيهها نحو مشاريع حيوية بقصد إعادة البناء، وقد تجاوزت التبرعات الأولية 60 مليون دولار عند الإطلاق. وعن أهمية الصندوق يرى خبراء أنه خطوة داعمة وجاذبة لإستثمارات أخرى، إذ يعمل على تهيئة المناطق المدمّرة وإعادة تأهيلها لتخلق حركة اقتصادية من خلال إنشاء الطرقات وشبكات المياه والاتصالات وبناء مؤسسات تربوية وصحية...
إذن، هناك حواجز كثيرة على الصعيد السياسي والأمني قد تعوق مسار إعادة الإعمار، وتبقى قدرة الحكومة الجديدة على مواجهة التحديات وتأمين بيئة مستقرة وجاذبة للاستثمار، المعيار الرئيسي الذي يحدد ما إذا كانت هذه الرهانات ستؤتي ثمارها أم ستظل مجرد طموحات. فهل تنجح الجهود الإقليمية والدولية في تحويل سوريا إلى مركز اقتصادي جديد، أم ستستمر في دوامة عدم الاستقرار؟
نبض