سوريا 2026: هل يُولَد اقتصاد جديد؟

مقالات 05-12-2025 | 06:07

سوريا 2026: هل يُولَد اقتصاد جديد؟

تقف سوريا اليوم على حافة خيارين: إما أن يتحوّل تدفّق الاستثمارات، والانفتاح على أدوات التمويل الإسلامي، إلى منصة لإعادة بناء اقتصاد منتج، وإما أن تنزلق البلاد مجدداً إلى اقتصاد ريعي.
سوريا 2026: هل يُولَد اقتصاد جديد؟
صورة جوية للمباني المدمرة في جنوب دمشق، 10 ديسمبر 2024. (أ ف ب)
Smaller Bigger

بعد سنة على سقوط نظام آل الأسد، تبدو صورة الاقتصاد السوري مركّبة إلى حدّ التناقض. الأرقام قاسية إلى حد اليأس، لكن خريطة الاستثمارات والتحوّلات المؤسسية تفتح نافذة ضيّقة لاحتمال تعافٍ مختلف عمّا عرفته سوريا منذ استقلالها.

وفق تقديرات البنك الدولي، انكمش الناتج المحلي السوري بنحو 50 إلى 65 في المئة مقارنة بعام 2010، ما أعاد مستوى التنمية إلى ما يشبه منتصف التسعينات. تكلفة إعادة الإعمار المقدَّرة تقارب 216 مليار دولار، أي ما يوازي نحو 10 أضعاف الناتج الحالي. أكثر من 16.7 مليون سوري يحتاجون إلى نوع من المساعدة، فيما يعيش نحو 90 في المئة من السكان في الفقر، ويُتوقَّع للاقتصاد أن ينمو بنسبة تقارب واحداً في المئة فقط عام 2025.

وسط هذا الركام، جاءت لحظة سقوط النظام القديم فرصة لإعادة توزيع أوراق النفوذ الاقتصادي. على وقع تخفيف واسع للعقوبات المفروضة على سوريا زمن آل الأسد، تحركت بسرعة الدول الخليجية، ومعها تركيا. المملكة العربية السعودية أعلنت حزمة استثمارات بنحو 6.4 مليارات دولار تشمل قرابة 2.93 مليار دولار في العقارات والبنى التحتية، وأكثر من 1.07 مليار دولار في الاتصالات والتكنولوجيا. وتكفّلت الرياض والدوحة تسديد متأخّرات سوريا لدى البنك الدولي، البالغة نحو 15.5 مليون دولار، ما فتح الباب أمام مؤسّسات التمويل الدولية للعودة عبر أول منحة بحوالى 146 مليون دولار لقطاع الكهرباء.

وأُعلِن في دمشق عن حزمة مشاريع تقارب 14 مليار دولار تقودها شركات إماراتية وقطرية: توسعة مطار دمشق الدولي بنحو أربعة مليارات دولار، ومشروع مترو للعاصمة بنحو ملياري دولار، إلى جانب أبراج سكنية وتجارية بحوالى ملياري دولار أخرى. ووقّعت سوريا عقداً لمدة 30 سنة مع شركة "سي إم إيه سي جي إم" الفرنسية لتطوير محطة الحاويات في اللاذقية باستثمار يبلغ نحو 230 مليون يورو، ثم اتفاقاً مع "موانئ دبي العالمية" لتطوير مرفأ طرطوس كميناء متعدّد الأغراض ومنطقة لوجستية باستثمار يقارب 800 مليون دولار.

 

عامل بناء في أحد شوارع الرقة. (رويترز)
عامل بناء في أحد شوارع الرقة. (رويترز)

 

في الطاقة، يبرز مشروع "الممر الغازي" التركي- الأذري- القطري لتزويد سوريا الغاز عبر كليس (تركيا)، بكميات تراوح بين 3.4 وستة ملايين متر مكعّب يومياً (نحو 1.2 مليار متر مكعّب سنوياً) إلى جانب 500 ميغاواط من الكهرباء التركية، ما يتيح إعادة تشغيل محطات بقدرة تصل إلى ألف و200 ميغاواط ومضاعفة التغذية إلى 10 ساعات يومياً في بعض المناطق.

في المقابل، تبدو الاستثمارات المحلية أكثر تواضعاً: عودة تدريجية لصناعيي حلب وعدرا، وإصلاح ورش نسيج وغذاء ومعادن بتمويل من رؤوس أموال سورية عائدة من الخليج وتركيا، وتحرّك للاغتراب السوري في مشاريع صغيرة في تكنولوجيا المعلومات والخدمات. ويهدف إصدار قانون استثمار جديد وتفعيل هيئة الاستثمار إلى تبسيط الإجراءات وتقديم حوافز، لكن وزن رأس المال المحلي لا يزال أقل بكثير من ثقل المال الخليجي والتركي في رسم خريطة القطاعات الكبرى.

في خلفية ذلك كله، يطفو سؤال الاقتصاد المستند إلى الشريعة. سوريا ليست أرضاً بكراً في هذا المجال: قانون المصارف الإسلامية المطبق منذ عام 2005، ومصارف مثل "الشام" و"البركة"، وعلاقة مجدَّدة مع البنك الإسلامي للتنمية، تشكّل بنية تحتية جاهزة لتوسيع التمويل الإسلامي. عملياً، أكثر ما يناسب سوريا اليوم ليس نموذج "أسلمة كاملة" على الطريقة السودانية – التي أثبتت هشاشتها – بل نموذج هجين: نظام مصرفي يعزّز التمويل الإسلامي، ودولة تموّل جزءاً كبيراً من إعادة الإعمار عبر صكوك سيادية بدلاً من السندات الربوية، وتفعيل مؤسّسي للزكاة والأوقاف كأدوات للحماية الاجتماعية وتمويل السكن الشعبي والمشاريع الصغيرة، مع بقاء قنوات تقليدية للتعامل مع صندوق النقد والبنك الدولي والأسواق العالمية.

 

سوريون يحتفلون بسقوط نظام بشار الأسد. (أ ف ب)
سوريون يحتفلون بسقوط نظام بشار الأسد. (أ ف ب)

 

في المحصلة، تقف سوريا اليوم على حافة خيارين اقتصاديين متناقضين: إما أن يتحوّل تدفّق الاستثمارات، والانفتاح على أدوات التمويل الإسلامي، وربط البلاد بشبكات الطاقة الإقليمية إلى منصة لإعادة بناء اقتصاد منتج يعيد توزيع الدخل ويولّد وظائف، وإما أن تنزلق البلاد مجدداً إلى اقتصاد ريعي تُعَاد فيه هندسة الامتيازات لمصلحة نخب جديدة، فيما تبقى غالبية السوريين على هامش الوعود الكبرى. إن قدرة الحكومة الجديدة على فرض قواعد شفافة، ومأسسة كل من الصكوك والأوقاف والزكاة، واستعادة الثقة المهدرة بين المواطن والدولة، ستكون المحدِّد الحقيقي لما إذا كان هذا العقد الاقتصادي الجديد سيمنح السوريين بداية مغايرة، أم سيعيد تدوير أزماتهم بلغة وشعارات مختلفة.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 12/3/2025 12:22:00 PM
لا بد من تفكيك شبكات التمكين الإسلامية داخل الجيش السوداني، وعزل قادته الموالين للإخوان... فهذا شرط أساسي لأي دعم دولي لعملية السلام.
المشرق-العربي 12/3/2025 12:18:00 PM
ياكواف كاتس، وهو أحد مؤسسي منتدى السياسة MEAD، والباحث البارز في JPPI، ورئيس تحرير السابق لصحيفة "جيروزاليم بوست" العبرية، يجيب عن هذه الأسئلة في مقال له، ويشير إلى الفوارق بين الماضي والحاضر.
المشرق-العربي 12/3/2025 2:17:00 AM
يطالب القرار إسرائيل بالانسحاب الكامل من الجولان
سياسة 12/4/2025 10:43:00 AM
أمرت الحكومة العراقية بتجميد جميع أموالهم وأصولهم...