فجأة، قرّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب مطلع عام 2025 وقف تمويل منظمة الصحة العالمية، موجهاً إليها سلسلة اتهامات، أبرزها تسييس عملها. واعتبر أن الولايات المتحدة تتحمّل "مدفوعات باهظة" لا تتناسب مع مساهمات دول أخرى مثل الصين، متهماً المنظمة بالانحياز أو التساهل مع بعض الدول خلال أزمات صحية سابقة. لكن السؤال يبقى: كيف سينعكس هذا القرار على الدول التي تعتمد بشكل كبير على دعم المنظمة في أنظمتها الصحية وخدماتها الإنسانية؟
الرئيس الأميركي دونالد ترامب (وكالات)
أوضح لـ "النهار"، الدكتور خالد رمضان الخبير الاقتصادي، ورئيس المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية في القاهرة، بأن السبب الرئيسي في فجوة التمويل التي تضرب منظمة الصحة العالمية هو انسحاب الولايات المتحدة، أكبر الممولين لأنشطة المنظمة، معتبراً أن إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب على وقف التمويل ليس مجرد خطوة سياسية، بل يعد زلزلاً اقتصادياً يهدد التوازن العالمي للصحة العامة.
وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن انسحاب ترامب يعكس تحولاً في السياسة الأميركية نحو "أميركا أولًا"، ويفتح الباب أمام مخاطر اقتصادية متعددة الأبعاد، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة ساهمت بنسبة 22% من ميزانية المنظمة المنتظمة لعامي 2024-2025، أي نحو 1.284 مليار دولار في الفترة ما بين 2022-2023 وحدها. وهذا الانسحاب يخلق فجوة تصل إلى 1.9 مليار دولار لعامي 2026-2027، بالإضافة إلى عجز بنحو 600 مليون دولار حتى نهاية 2025، أي نحو 45% من الميزانية المخفّضة بالفعل.
وهذا يعني، وفقاً للخبير الاقتصادي، إعادة توزيع العبء على الدول الأخرى، خصوصاً ألمانيا والاتحاد الأوروبي، متوقعاً أن يضطروا إلى زيادة مساهماتهم بنسبة تتراوح ما بين 10-15%، مما يثقل كاهل ميزانيات تلك الدول في وقت تتسارع فيه التضخمات العالمية. أما الصين، التي تساهم بنسبة 12%، فقد تستغلّ الفرصة لتعزيز نفوذها الاقتصادي عبر تمويلات مشروطة، مما يغير ديناميكية التمويل الدولي نحو نموذج أكثر سياسية وأقلّ شفافية.
ويرى د. رمضان أن الصحة ليست قطاعاً منعزلاً عن الاقتصاد. إنها رأس مال بشري يدفع النمو الاقتصادي، وانسحاب الولايات المتحدة يهدد برامج حيوية مثل مكافحة الإيدز، والسل، والملاريا، والاستعداد للأوبئة، مما قد يؤدي إلى خسائر اقتصادية تصل إلى 2-3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول 2030، وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي. وعلى سبيل المثال، فإن تأخير حملات التطعيم في الدول النامية قد يعيد انتشار الأمراض المعدية، مما يزيد تكاليف الرعاية الصحية بنسبة 20-30% ويقلّل من الإنتاجية العمالية.
ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن فقدان الولايات المتحدة مقعدها في المنظمة يقلل من وصولها إلى بيانات المراقبة العالمية، مما يعرض اقتصادها لمخاطر أعلى، مثل تأخير الكشف عن سلالات جديدة من الإنفلونزا أو الأوبئة، ويؤدي إلى خسائر تجارية تصل إلى مئات المليارات، معتبراً أن الانسحاب الأميركي يعزز الضغط على التمويلات الخاصة، مثل مؤسسة غيتس، التي تغطّي 10% من ميزانية المنظمة، لكنها قد تفرض أولويات غير متوازنة، مما يفاقم التفاوتات الاقتصادية بين الشمال والجنوب العالمي.
بالنسبة إلى لبنان، يرى د. رمضان أن فجوة التمويل التي تعانيها منظمة الصحة العالمية تمثل ضربة للقطاع الصحي في لبنان، الذي يعاني انهياراً بنسبة 70% منذ 6 سنوات تقريباً، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تساهم سنوياً عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بـ72 مليون دولار لتمويل برامج الصحة، والتعليم، والغذاء في لبنان، وتجميد هذه التمويلات يهدّد بإغلاق مراكز صحية في الجنوب والمناطق المتضررة من النزاعات، ويهدد جفاف التمويل برفع معدل الوفيات من الأمراض المعدية بنسبة 15%، مما يقلل من القوى العاملة الشابة ويزيد العبء على الميزانية العامة المحدودة، التي تعاني أصلاً من ديون تصل إلى 183% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأوضح الخبير الاقتصادي بأن الانسحاب الأميركي المتهور من منظمة الصحة العالمية، وصعود البدائل، يقلّل من النفوذ الأميركي في صياغة السياسات الصحية العالمية، مما يفتح المجال أمام الصين، العدو اللدود للولايات المتحدة، لملء الفراغ الصحي، متوقّعاً أن تزيد مساهمة بكين بنسبة 20% لتعزيز نفوذها في أفريقيا وآسيا، وهذا يعني تحولاً في السياسات الصحية العالمية نحو نماذج أكثر تبعية؛ والأخطر أن عدوى الانسحاب من المنظمة بدأت تنتشر، ولن يتوقف الأمر عند الأرجنتين التي انسحبت هي الأخرى من المنظمة، مما قد يشجع دولًا أخرى على الانسحاب، معتبراً أن تفتيت التكتل الصحي سوف يضعف المنظمة ككل، ويزيد التكاليف الاقتصادية للأوبئة المستقبلية.
مع ذلك، يرى د. رمضان أن انسحاب الولايات المتحدة والأرجنتين من تمويل المنظمة ليس نهاية العالم الصحي، بل هو إشارة صريحة إلى الحاجة الماسة لإعادة بناء نظام تمويلي عادل ومستدام، في الوقت الذي حذّر فيه من أنه إذا لم يتحرّك العالم بسرعة، فإن التكلفة ستكون أعلى بكثير من المليار دولار المطلوبة اليوم، وقبل أن يصبح الانهيار الصحي واقعًا مريرًا.