سؤال اقتصادي: ماذا لو انهار الذكاء الاصطناعي؟!
صارت طفرة الذكاء الاصطناعي أخيراً المحرك الرئيسي لنمو الاقتصاد العالمي، بفضل مكاسب غير متوقعة لشركات تبني مراكز البيانات ولمورديها. مع ذلك، يُلقي هذا الاندفاع الرأسمالي بظلال قاتمة على ضعف مزمن في قطاعات اقتصادية أخرى. فالاقتصاد العالمي يعاني ركوداً منذ أشهر، لكن النشاط المكثف في قطاع الذكاء الاصطناعي يحجب الأرقام الكلية، وهذا يوصلنا إلى وضع خطر، بسبب الاعتماد المفرط على قطاع واحد. فقد يؤدي هذا الأمر إلى خلل في تقدير المخاطر الاقتصادية. مثلاً، النمو المحتمل لإجمالي الناتج المحلي في الولايات المتحدة، والذي قد يصل إلى 2.1% بين 2025 و2029 ، معرض لخطر وحيد: انهيار التفاؤل بالذكاء الاصطناعي وتوقف التدفق الاستثماري.
تكمن الخطورة هنا في توقع ديمومة الاستقرار. فالاستثمارات الضخمة في الإنفاق الرأسمالي، والتي تجسدها إيرادات عملاق الرقائق "إنفيديا" البالغة 51,2 مليار دولار من مراكز البيانات في الربع الثالث من العام المالي 2026 ، تؤدي إلى ارتفاع في الإيرادات والتوظيف تعوض التباطؤ في الصناعات التقليدية. وعندما تستند الحكومات والبنوك المركزية إلى هذه البيانات المجمعة، فستواصل سياسات نقدية تضييقية، معتقدة "أننا لسنا في حالة ركود" ، وهذا يزيد من حدة الانهيار عندما يسقط قناع الذكاء الاصطناعي.

تركيز القوة المالية
تتجلى هشاشة الطفرة في مدى تركيز التدفقات المالية. لم يكن نمو الذكاء الاصطناعي عملية نمو صناعي واسعة، بل كان تركيزاً مكثفاً لرأس المال في عدد قليل من عمالقة البنية التحتية والشركات الناشئة في مراحلها المتأخرة. ففي النصف الأول من 2025، بلغ إجمالي التمويل العالمي لشركات الذكاء الاصطناعي 116,1 مليار دولار، متجاوزاً إجمالي تمويل 2024 كاملاً. وفي الربع الثالث من 2025 وحده، وصل الاستثمار الرأسمالي العالمي إلى 97 ملياراً.
عالمياً هذا النمو ليس متساوياً: استحوذت الولايات المتحدة على نحو 84% من التمويل العالمي في الربع الثاني من 2025. والأهم أن النمو يقوده التمويل في مراحله المتأخرة (73,5 مليون دولار في 2025)، وهكذا، يحصد الفائز معظم مغانم السوق التي تغذيها الحاجة إلى السرعة على حساب الكفاءة.
تمثل "إنفيديا" نقطة "اختناق اقتصادي" في هذا القطاع. ففي الربع الثالث من سنتها المالية 2026 (المنتهي في أكتوبر 2025)، سجلت إيرادات قياسية بلغت 57 مليار دولار (51.2 ملياراً من قطاع مراكز البيانات فيها أي 90% من إجمالي الإيرادات، بزيادة 66% على أساس سنوي)، وهذا دليل على أن الطلب على بنية الذكاء الاصطناعي الأساسية لا يزال هائلاً (يتجاوز الطلب على رقائق "إنفيديا" العرض بنسبة 12:1).
لم يُترجم الاستثمار الهائل في البنية التحتية بعدُ مكاسب إنتاجية واسعة النطاق في قطاع البرمجيات التطبيقية، وهذا يعني أن الأدوات الأساسية مربحة جداً، لكن الفوائد الاقتصادية الموعودة لم تتحقق بعد، وهذا مثير للقلق.

جبهات الخطر
لن ينتج تعثر طفرة الذكاء الاصطناعي من جفاف رأس المال، لكن من انهيار الثقة والاصطدام بقيود مادية غير قابلة للتغيير. إن ثقة المستثمرين تتحول من "التفاؤل الجامح" إلى نهج أشد حذراً. فقد أظهر مسح أن 45% من المستثمرين يعتبرون فقاعة الذكاء الاصطناعي "الخطر الأكبر". وتواجه الشركات التي استثمرت بكثافة في حلول الذكاء الاصطناعي ضغطاً متزايداً لإظهار عائد حقيقي على الاستثمار. ويعود جزء من هذا الفشل إلى صعوبات التنفيذ الداخلي: فربما تفشل المشاريع بسبب نقص البيانات الكافية لتدريب النماذج، أو الافتقار إلى البنية التحتية الملائمة لإدارة النماذج المكتملة.
القيود الهيكلية والبيئية هي الأخطر على الإطلاق. فمنطق "الريادة المطلقة" يفضّل السرعة على كفاءة الموارد، ما يزيد من بصمة الذكاء الاصطناعي البيئية. وتستهلك مراكز البيانات كميات هائلة من الطاقة والمياه. وتشير التقديرات إلى أن مراكز البيانات الأميلاكية تستهلك من الماء سنوياً ما يستهلكه 10 ملايين أميركي، وتنتج انبعاثات كربونية تعادل ما تنتجه 10 ملايين سيارة بحلول نهاية العقد.
وهكذا، إن لم تنجح الجهود في فرض الشفافية والكفاءة واستخدام الطاقة المتجددة في هذه المراكز، سيصطدم نمو الذكاء الاصطناعي بحدود البنية التحتية المحلية للمياه والكهرباء. والقيود على الشبكة الكهربائية ونقص المياه هيكلية غير سوقية تتطلب تدخلاً حكومياً وتنظيمياً. وإذا تباطأ النمو بسبب المقاومة المجتمعية أو اللوائح البيئية، فهذا سيحد من طموح الإنفاق الرأسمالي العالمي المتوقع للذكاء الاصطناعي، والذي يقدر بـ 4 تريليونات دولار بحلول نهاية هذا العقد.
هبوط ناعم أم انهيار عنيف؟
إذا انهار التفاؤل بالذكاء الاصطناعي، فلن يقتصر التأثير على انخفاض القيمة السوقية؛ بل سيؤدي إلى زعزعة الأسس الاقتصادية. وهذا الانهيار سيُزيل القناع عن الركود الأساسي الذي كان مستتراً، ما يهدد بدفع الاقتصاد الأميركي إلى حالة أسوأ مما توقعه الاقتصاديون.
يتطلب الهبوط الناعم نجاح مرحلتين انتقاليتين صعبتين: الأولى هي الانتقال المالي، إذ على الشركات تبرير تقييماتها المرتفعة وإثبات العائد الفعلي على الاستثمار بدلاً من الاعتماد على التزام بالتمويل؛ والثانية هي الانتقال المادي والحوكمي، إذ على القطاع التخلي عن منطق "الريادة أولاً" الذي يهمل كفاءة الموارد، لينتقل إلى ممارسات مستدامة ومُنظمة تضمن معالجة استهلاك المياه والطاقة.
إن فشل الذكاء الاصطناعي في تقديم مكاسب إنتاجية واسعة ومستدامة، لن تقتصر العواقب على تصحيح سوقي فحسب، بل ستؤدي إلى خطر منهجي يتمثل في فترة طويلة من النمو البطيء، تتفاقم بسبب سياسات رسمت في غير مكانها، بناءً على ثقة مفرطة في محرك اقتصادي كان أشد هشاشة مما بدا عليه. ستكون مراقبة توازن مراكز البيانات بين النمو والقيود البيئية المؤشر الأدق على مصير الطفرة الاقتصادية العالمية.
نبض