شفيق طاهر*
ما عادت السيطرة على جنوب سوريا مسألة حدودية، بل صارت صراعاً على شريان يمنح الأرض حياتها... الماء. فتل أبيب، بمحاولتها إحكام قبضتها على حوض اليرموك وسد الوحدة وسلسلة من السدود الأصغر مثل منترة وعين الزوان وروافد الرقاد، تؤمن لنفسها نحو خِمس إمدادات المياه التي تغذي جنوب سوريا وشمال الأردن. وهذه السيطرة، إن حصلت، لا تقتصر على توفير إمدادات مياه للأراضي الزراعية، بل تمنح إسرائيل ورقة ضغط دائمة تستخدمها في كل مفاوضة تتعلق بالحدود أو اللاجئين أو الضمانات الأمنية. بهذا المعنى، تتحول المياه من مورد طبيعي إلى أداة جيوسياسية تُعيد صوغ موازين القوة في المشرق.
خريطة نفوذ لا ترى
من مرتفعات جبل الشيخ والتلال الممتدة نحو رخلة، تطل إسرائيل على كامل المشهد المائي في الجنوب السوري، وتشرف على وديان الأنهار ومجمعات السدود وقنوات الري، مدعومة بأنظمة مراقبة متطورة تتيح لها تتبّع حركة المياه في الزمن الحقيقي. تحول هذه السيطرة التقنية الجغرافيا إلى جهاز مراقبة دائم، يمكن بواسطته تعديل تدفق المياه أو تعطيله بدقة هندسية. فالماء في هذه المعادلة ليس عنصراً طبيعياً، بل بنية أمنية تتحكم إسرائيل عبرها بمجرى السياسة، قبل مجرى النهر.
في الظل، تعمل الميليشيات المحلية المدعومة من إسرائيل أذرعاً تنفيذية لهذه الهيمنة المائية. الحرس الوطني الدرزي في السويداء، الذي يضم نحو ثلاثة آلاف مقاتل ممول مباشرة من إسرائيل، يؤدي وظيفة "شرطة مياه" غير معلنة. وتكشف حادثة تدمير أنابيب المياه في قريتي زبيدة الشرقية والحميدية في أيلول/سبتمبر 2025 كيف تستخدم الماء كأداة حصار، تدفع السكان إلى النزوح وتعيد رسم الخريطة الديموغرافية للمنطقة.
بهذا الشكل، يتحول العطش إلى سلاح أفعل من المدفع، والهجرة إلى نتيجة هندسية مخطط لها. السيطرة على الماء تفتح الباب أمام الاستيطان، فحين تجفف موارد القرى السورية والفلسطينية، تترك الأرض عطشى للهجرة، لتملأها لاحقاً المستوطنات الزراعية التي تغتذي من المياه ذاتها. إنها دورة إحلال هادئة، تسندها التكنولوجيا وتباركها الحاجة.
الأردن رهينة المحبس
يدخل الأردن، المحاصر بأزماته المائية، بدوره في شبكة الاعتماد على المياه الإسرائيلية. ما يقدم كـ"تعاون اقتصادي ضروري" هو في جوهره علاقة تبعية استراتيجية، تمنح تل أبيب قدرة على الضغط في كل لحظة توتر أو تفاوض. فكل متر مكعب من الماء يمر الى الأردن عبر أنابيب السياسة، حاملا في طياته اتفاقا ضمنيا يكرس ميزان القوى.
الأراضي الفلسطينية المحتلة جزء من هذه المعادلة أيضاً، إذ تعتمد بدورها على إمدادات مائية إسرائيلية جزئياً. وفي حال إضافة مياه اليرموك إلى هذا الاعتماد، تتعمق الهيمنة وتتحول الندرة إلى أداة ديبلوماسية، يقايض بها الأمن بالسيادة، والماء بالقرار.
في ظل تصاعد الجفاف وتوقعات المراكز الإسرائيلية بارتفاع عدد سكان سوريا 60% بحلول 2050، تبدو تل أبيب كمن يسبق العطش بخطوة: تؤمن أحواضها وتمسك بمفاتيح النهر قبل أن يفتح باب التفاوض عليه.
وهكذا، يغدو الجنوب السوري مسرحاً لصراع لا يُقاس بعدد القتلى، بل بكمية الماء المتدفقة. فالماء جوهر السياسة المشرقية الجديدة، وورقة قوة تكتب بها خرائط الغد. ومن يتحكم بتدفق الماء اليوم، يتحكم بمستقبل المنطقة غداً.
نبض