تحول تاريخي في قطاع التجزئة السعودي: طلب على وجهات قائمة على التجربة ونمط الحياة وأسعار أرخص
يشهد قطاع التجزئة في المملكة العربية السعودية تحولاً غير مسبوق، مدفوعاً بارتفاع الإنفاق الاستهلاكي إلى نحو 376 مليار دولار، وبالتوسع السريع في المساحات التجارية الحديثة التي تعتمد على مفهوم التجربة ونمط الحياة في استقطاب الزوار. هذا التحوّل يعيد صوغ طريقة تسوّق السعوديين وتعاملهم مع المراكز التجارية، في وقت تتجه فيه المملكة إلى اقتصاد أكثر تنوّعاً وانفتاحاً ضمن رؤية 2030.
وفي هذا السياق، استضافت "النهار" الخبير فيصل درّاني، الشريك ورئيس قسم الأبحاث في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لدى شركة Knight Frank، للحديث عن أبرز ما جاء في تقرير السعودية 2025 الذي يرصد المتغيرات الرئيسية في قطاع التجزئة والقطاعات التجارية الأخرى.
استهلّ درّاني حديثه بتأكيد أنّ الاقتصاد السعودي يسجّل خطوات متقدمة في مسار التحول الاقتصادي، إذ ينمو القطاع غير النفطي بوتيرة تفوق نمو الاقتصاد الكلّي. فقد حقق خلال النصف الأول من العام نمواً بلغت نسبته 4.7%، وهي دلالة واضحة على نجاح المبادرات الحكومية الرامية إلى تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط. ورأى أنّ هذا التحوّل سيخلق طلباً متزايداً على مختلف الأصول العقارية، معتمداً على نشاط اقتصادي متجدّد وليس فقط على الإيرادات النفطية.
وفي شرحه لمنهجية التقرير، أوضح أنّ Knight Frank أجرت أكثر من ألف مقابلة مع مواطنين ومقيمين من فئات دخل مختلفة، بهدف قياس توجهاتهم وسلوكياتهم الاستهلاكية. وصدر التقرير هذا العام على مرحلتين: الأولى خُصّصت للقطاع السكني، فيما ركّزت المرحلة الثانية على قطاعات التجزئة، الضيافة، المطاعم والمقاهي، الرعاية الصحية، والتعليم، وهي القطاعات التي تشهد تغيّرات عميقة ضمن رؤية 2030.
وأشار درّاني إلى أنّ التحوّل الأكبر في قطاع التجزئة يرتبط بتركيبة المجتمع السعودي الشاب، إذ أنّ ثلثي السكان دون سن الثلاثين، و45% دون الخامسة والعشرين. هذه الفئة لا تبحث عن التسوّق التقليدي فحسب، بل عن تجارب متكاملة تشمل الترفيه والتعليم والصحة. ولهذا، يظهر بوضوح انتشار ما تُعرف بـ"مشاريع التجزئة القائمة على أسلوب الحياة"، وهي مشاريع تركّز على المساحات الخارجية، والنوافير، والساحات المفتوحة، والجلسات الخارجية للمطاعم والمقاهي، بهدف إطالة مدة بقاء الزائر وزيادة معدلات إنفاقه.
وتناول التحوّل السريع نحو التجارة الإلكترونية التي شهدت نمواً لافتاً بنسبة 42% خلال عام واحد، إضافة إلى ارتفاع إجمالي عمليات نقاط البيع والتجارة الإلكترونية بنحو 5%. ويرجع هذا التحول إلى محدودية الخيارات في بعض المتاجر التقليدية، ما يدفع المتسوقين إلى الإنترنت بحثًا عن تنوّع أكبر. ومع ذلك، لا يزال المستهلكون يفضّلون زيارة المتاجر عند شراء المنتجات المتخصصة مثل مستلزمات الأطفال والكتب والقرطاسية، ما يجعل الدمج بين المتاجر التقليدية والمنصات الإلكترونية ضرورة لاستمرار العلامات التجارية.
ولفت إلى أنّ 56% من المتسوقين مستعدون للقيادة حتى 20 دقيقة للوصول إلى متجر محدّد، ما يساهم في ازدحام المدن. ويرى أنّ هذا الواقع يخلق فرصة كبيرة أمام المطورين لتطوير مراكز تجارية صغيرة داخل الأحياء السكنية، تكون على مسافة سير لا تتجاوز عشر دقائق، بما يساهم في تقليل الازدحام وتحسين جودة الحياة.
أما في ما يتعلق بقطاع المطاعم والمقاهي، فأوضح أنّه يشكّل 45% من إجمال معاملات نقاط البيع في المملكة، بقيمة وصلت إلى 99 مليار ريال. ورغم انتشار المطاعم الراقية، فإنّ غالبية المستهلكين —سواء كانوا سعوديين أم مقيمين— يطالبون بخيارات أكثر معقولية من ناحية الأسعار. ويبرز هذا التوجه أيضاً في ثقافة القهوة المنتشرة في المملكة، حيث يخرج أكثر من نصف السكان لتناول القهوة مرات عدة أسبوعياً، إلا أنّ متوسط الإنفاق لا يتجاوز 50 ريالاً، ما يعكس حساسية واضحة حيال الأسعار.

وفي ما يتعلق بفرص الاستثمار، أكد درّاني أنّ قطاعي التجزئة والمطاعم والمقاهي يُعدّان الأكثر جذباً في المرحلة المقبلة، وأن الفرصة الأكبر تكمن في تطوير مجمّعات F&B محلية داخل الأحياء السكنية والمشاريع المتعددة الاستخدام. هذه الخطوة من شأنها تخفيف الضغط المروري في المدن، وتحسين نمط الحياة، وتلبية الطلب المتزايد على المطاعم العائلية والمقاهي القريبة من أماكن السكن.
وفي المحصلة، يكشف تقرير Knight Frank 2025 أنّ قطاع التجزئة السعودي يقف على أعتاب مرحلة جديدة تتسم بسيطرة الجيل الشاب، وتسارع نمو التجارة الإلكترونية، وتحول المراكز التجارية إلى وجهات قائمة على التجربة ونمط الحياة، إضافة إلى ارتفاع حساسية المستهلك حيال الأسعار، وظهور فرص استثمارية واسعة تستهدف تطوير بيئة تجارية أكثر تنوعاً ومرونة.
نبض