بين التوازن والضغط... ماذا يحدث عندما يصبح العمل حياتك كلها؟

اقتصاد وأعمال 16-11-2025 | 12:51

بين التوازن والضغط... ماذا يحدث عندما يصبح العمل حياتك كلها؟

تقول عايدة، وهي أمّ لطفلين، إن الوقت الذي يتبقّى لها بعد عودتها من عملها في مكتب خدمة عملاء لشركة طيران لا يكفيها سوى للأكل والنوم.
بين التوازن والضغط... ماذا يحدث عندما يصبح العمل حياتك كلها؟
صورة تعبيرية لموظف مرهق (ذكاء اصطناعي)
Smaller Bigger
منّا من يستيقظ من أوّل رنة للمنبه، ومَن لا ينهض إلا مع آخر رنة… لكن في الحالتين، العمل يناديك!

لم يعد ما نعيشه اليوم "عصر السرعة"، بل أدقّ وصف له هو "عصر الوقت الضيّق"، أي وقت بالكاد يمنح الموظف فرصة للراحة أو لتمضية لحظات بسيطة مع عائلته، قبل أن يعود المنبّه ليعلن يوماً جديداً من العمل. يرجع الموظف إلى منزله منهكاً، فاقداً الشغف حتى للكلام في أحيان كثيرة. فماذا عن الأبعاد الوظيفية والنفسية لهذه الحالة؟ وما هي الطريق الأمثل لللتنظيم والتوازن.

 

 

من المتوقعٌ أن يعمل العديد من الموظفين الصينيين 72 ساعة أسبوعياً في ظل ثقافة العمل "996" المرهقة: من التاسعة صباحاً حتى التاسعة مساءً، ستة أيام في الأسبوع. وقد أيد هذا النمط بعض أبرز رجال الأعمال في الصين، بمن فيهم مؤسس شركة "علي بابا"، جاك ما. في المقابل، وصفه النقاد بأنه شكل من أشكال استغلال العمالة، وحتى عبودية حديثة.

 

كان أسبوع العمل الممتد 72 ساعة سمة مميّزة لصناعة التكنولوجيا الكثيفة في الصين، لكن تم حظره هناك في عام 2021. مع ذلك، يكتسب هذا النهج اهتماماً جديداً في كاليفورنيا، حيث ينشر بعض العمال منشورات على منصات مثل "لينكدإن" و"إكس"، معتبرين "996" علامة على الطموح والتفاني، ما يطرح تساؤلات حول حدود التوازن بين الحياة والعمل، ومستقبل ثقافة العمل.

 

أخطاء قاتلة في العقود: تحذيرات من خبيرة موارد بشرية
في حديث إلى "النهار"، تسلط سالي أبو علي، استشارية موارد بشرية ومطورة مهنية، الضوء على أبرز المشاكل التي تواجه الموظفين في ما خص حقوقهم، وأهمها توقيع العقود. وتروي مثالاً قائلة: "حصل أحدهم على عرض وظيفي ووقع العقد باسمه في آخر الصفحة، وبعدما بدأ العمل لاحظ أن الراتب مختلف عما اتفق عليه شفهياً. الخطأ كان عدم توقيع كل صفحة من العقد للتأكد من البنود، وعدم طلب نسخة من العقد، وهذا شائع".

 

وتضيف: "القانون لا يحمي المغفلين، لذا يجب التأكد من كل التفاصيل قبل التوقيع".

 

معايير جديدة في بيئة العمل
توضح أبو علي: "في عام 2024، أقر الأردن العمل المرن (الجزئي، عن بعد، هايبرد)، وهذا توجه جميل، ويوجد قوانين تدعمه، لكن التحدي يكمن في عقليات أصحاب العمل. هذه البرامج ترتكز على اقتصاد الرعاية، حيث لم يعد قياس الإنتاجية بعدد ساعات العمل أو مكان العمل، بل بإنجاز الموظف مهماته. الهدف هو التركيز على النتائج، سواء عمِل الموظف طوال اليوم أو أنجز مهماته في وقت أقل، المهم أن يكون العمل ذكياً وفعالاً، وليس أن أراقب الموظف بالكاميرا، أو أطلب منه أن يسجل المهمات التي أنجزها في كل ساعة من اليوم".

 

تشير استشارية الموارد البشرية إلى أن معظم الشركات يعتمد مؤشرات قياس الأداء لتقييم الموظفين، مضيفة أن التركيز أصبح على النتائج أكثر من عدد ساعات العمل. وتوضح: "بعض الموظفين يداوم 8 ساعات بلا إنتاجية، بينما يستطيع آخرون إنهاء العمل في ساعتين فقط".

 

صورة تعبيرية للعمل عن بعد (مواقع تواصل)
صورة تعبيرية للعمل عن بعد (مواقع تواصل)

 

وتشدّد على أهمية الصحة النفسية والتوازن بين العمل والحياة الخاصة، مؤكدة أنه لم يعد رفاهية بل ضرورة. تقول: "على الموارد البشرية توفير تدريبات وسياسات تدعم ذلك، مثل عدم التواصل مع الموظف بعد انتهاء الدوام، وفهم سبب بقاء الموظف ساعات إضافية: هل هو نقص في الموارد؟ تقصير من المؤسسة؟ ضعف قدرات الموظف؟ أم زيادة المهمات من المدير؟".

 

"من المهم أن يعود الموظف إلى عائلته ومنزله بعد ساعات العمل من دون أن يصطحب معه ضغوط العمل، وأن يوازن بين حياته المهنية والشخصية"، تختم أبو علي. 

 

سالي أبو علي، استشارية موارد بشرية ومطورة مهنية،: "في عام 2024، أقرت الأردن العمل المرن (الجزئي، عن بعد، هايبرد)، وهو توجه جميل ويوجد قوانين تدعمه، لكن التحدي يكمن في عقليات أصحاب العمل".

 

بين التعب والطموح... كيف يعيش الموظف يومه؟
يعمل محمد، مدير الإعلام ومسؤول الاتصال في منظمة غير حكومية، ثماني ساعات يومياً، ويقول إنه نجح في تحقيق توازن صحي بين عمله وحياته العائلية: "عندما أغادر المكتب، أنفصل ذهنياً تماماً عن العمل"، مشيراً إلى أن نظام عمله يمنحه يوماً واحداً في الأسبوع للعمل عن بُعد.

 

ولا يربط محمد الإنتاجية بعدد ساعات العمل، بل بجودة الأداء، موضحاً: "قد يتمكن شخصان من إنجاز مهمتيهما في وقت أقصر من شخص آخر يميل إلى المماطلة. في الواقع، البقاء في العمل أوقاتاً طويلة قد يقلّل من الإنتاجية بدلاً من زيادتها".

 

ويشير إلى أن الضغط في العمل ينشأ غالباً نتيجة نقص الموظفين، وهذا ما كان يعاني منه في وظيفته السابقة. أما اليوم، فيرى أن بيئة عمله الحالية أكثر توازناً، إذ تمنحه وقتاً إضافياً لتطوير مهاراته والانخراط في دورات تعليمية تعزز تطوّره المهني.

 

عايدة، وهي أمّ لطفلين، تقول إن الوقت الذي يتبقّى لها بعد عودتها من عملها في مكتب خدمة عملاء لشركة طيران لا يكفيها إلا للأكل والنوم، مشيرةً إلى أنها تفتقر كليّاً إلى التوازن بين حياتها المهنية وحياتها الخاصة. وتوضح لـ "النهار" أنّها تعمل سبع ساعات يومياً، لكن دوامها غير ثابت ويتغيّر من يوم إلى آخر، ما يجعلها غير قادرة على وضع نظام منزلي تلتزمه.

 

خلف كلمات عايدة تتكشّف معاناة يومية تواجهها شرائح واسعة من العاملين، عنوانها الأبرز الاحتراق الوظيفي وتداعياته النفسية والجسدية.

 

صورة تعبيرية لموظفة مرهقة (اكس)
صورة تعبيرية لموظفة مرهقة (اكس)

 

ما هي علامات الاحتراق الوظيفي؟
اعترفت منظمة الصحة العالمية رسمياً بالاحتراق الوظيفي بصفتها ظاهرة مهنية، معرفّة إياه بأنه متلازمة ناتجة من ضغوط عمل مزمنة لم يتم التعامل معها بشكل مناسب، وتتّصف بثلاثة أبعاد رئيسية: الإرهاق، السلبية أو التجرد العاطفي حيال العمل، وتراجع الكفاءة أو الفعالية المهنية.


يقول المعالج والمحلل النفسي الدكتور أنطوان الشرتوني لـ "النهار" إن الموظف الذي يختبر احتراقاً نفسياً يعاني من تعب نفسي وجسدي في آنٍ واحد، ما ينعكس سلباً على حياته اليومية، العائلية والفردية على حد سواء. ويوضح أن الموظف المنهك يشعر بالحزن، ويفتقر إلى الطاقة لمتابعة يومه. يبدأ بمهمات معينة لكنه يعجز عن إتمامها، ويميل إلى الانعزال عن النشاطات اليومية، فيفقد نظرته الإيجابية إلى المستقبل.

 

ويشبّه الشرتوني هذه الحالة ببعض سمات الاكتئاب، إذ يشترك المصابون بالاحتراق المهني مع المصابين بالاكتئاب في الميل إلى قطع العلاقات الاجتماعية، وفقدان الرغبة في التواصل، وعدم الاستمتاع بالأشياء التي كانت تمنحهم السعادة سابقاً. ويشدد على أن أبرز مظاهر الاحتراق الوظيفي يتمثل في سرعة الانفعال، وكثرة الصراخ، والشعور الدائم بالتعب النفسي والجسدي.

 

 

كيف نواجه الاحتراق الوظيفي؟
يقدّم الشرتوني مجموعة من الخطوات الوقائية لتجنّب الاحتراق الوظيفي، أبرزها أن يخصّص الفرد وقتاً لنفسه بعد انتهاء الدوام، يمارِس خلاله نشاطات تفرحه وتُبعده عن ضغوط العمل. ويشدّد على أهمية الابتعاد عن مصادر التوتر والمشاكل اليومية، والإحاطة بأشخاص إيجابيين يبعثون على الدعم والطاقة الإيجابية. كما يرى أن ممارسة الرياضة سواء جسدية أو روحية، والاستماع إلى الموسيقى أو القراءة، تشكّل مفاتيح أساسية للحفاظ على التوازن النفسي وإبعاد شبح الإرهاق.

 

لكن الشرتوني يلفت إلى الآتي: "في حال استمرار الإرهاق أو تحوّله إلى أفكار سلبية، يجب طلب المساعدة من اختصاصي نفسي. ففي بعض الحالات، لا نستطيع معالجة أنفسنا بمفردنا، ولا ضير ولا عيب في اللجوء إلى طبيب نفسي".

 

رأي
فاطمة عباني
الذكاء الاصطناعي والرقمنة لمكافحة التهرّب الضريبي: أين يقف النموذج المالي اللبناني؟
هذه الظاهرة تبدأ من الصفحات الإلكترونية ولا تنتهي بـ "الفاليه باركينغ"
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/15/2025 3:17:00 PM
طائرة مستأجرة تضم فلسطينيين تختفي عن الأنظار ثم تهبط فجأة في جوهانسبرغ بظروف غامضة.
النهار تتحقق 11/15/2025 9:19:00 AM
"تقول السلطات إن الأمر كله مرتبط برجل واحد متهم...". ماذا عرفنا عن هذا الموضوع؟  
تركيا 11/16/2025 6:11:00 AM
كان أفراد العائلة أصيبوا بتوعّك الأربعاء بعد تناولهم أطعمة من باعة متجوّلين