الذكاء الاصطناعي: الوجه الآخر للشراكة الجديدة السعودية - الأميركية
في السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة تحوّلاً عميقاً في بنيتها الاقتصادية والاستراتيجية. بعد عقود من قيامها على معادلة "النفط في مقابل الأمن"، بدأت الشراكة بين الرياض وواشنطن تأخذ طابعاً جديداً عنوانه "رأس المال في مقابل التكنولوجيا". ويصبح الذكاء الاصطناعي محرّكاً رئيسياً في هذا التحول، وتصبح الاستثمارات المتبادلة في هذا القطاع رمزاً لهذا المسار الجديد.
تُعَدّ شركة "داتافولت" السعودية من أبرز معالم هذا التحول، بعدما أعلنت أنها تخطّط لاستثمار 20 مليار دولار في إنشاء مراكز بيانات للذكاء الاصطناعي والبنية التحتية للطاقة داخل الولايات المتحدة. يأتي هذا المشروع الضخم من ضمن حزمة أوسع تُقدَّر بأنها تُشكّل "شراكة استثمارية تكنولوجية" بقيمة تصل إلى قرابة 600 مليار دولار، تشمل استثمارات ومشتريات وصفقات بين البلدين.
ليس هذا فحسب، بل تستثمر شركات تكنولوجية أميركية كبرى في السعودية لتدعيم طموح المملكة الى أن تصبح مركزاً عالمياً للحوسبة والذكاء الاصطناعي من ضمن "رؤية 2030". وأعلنت شركة "أمازون ويب سيرفيسز" أنها ستستثمر أكثر من خمسة مليارات دولار لإنشاء "منطقة للذكاء الاصطناعي" في المملكة، في حين أعلنت شركة "غوغل كلاود" عن استثمار 10 مليارات دولار لتأسيس مركز للذكاء الاصطناعي بالتعاون مع شركاء سعوديين. كذلك أبرمت شركتا "إنفيديا" و"إيه إم دي" شراكات لتوريد شرائح ضخمة تُستخدَم في مجالات الذكاء الاصطناعي.
وإن كان بعض من تلك الاستثمارات لا يزال في مرحلة التنفيذ أو في طور التعهّد وليس تدفّقاً محققاً بالكامل، فهي لا تُعبّر عن تبادل مالي فحسب، بل تعكس أيضاً رؤية استراتيجية متبادلة: تريد المملكة استثمار مواردها في الطاقة والبُنى التحتية لتصبح مركز معالجة للذكاء الاصطناعي في قلب أسواق آسيا وأفريقيا، بينما تعتبرها الشركات الأميركية سوقاً واعدة ورأس مال كبيراً ونقطة انطلاق للتوسّع خارج البيئة التكنولوجية التقليدية في أميركا وأوروبا.
على مستوى أوسع، تندرج هذه الاستثمارات في سياق مسار متصاعد للتعاون الاقتصادي بين البلدين. بحسب أحدث البيانات الأميركية، بلغ رصيد الاستثمار السعودي المباشر في الولايات المتحدة نحو 9.5 مليارات دولار حتى نهاية عام 2023، أما رصيد الاستثمار الأميركي المباشر في المملكة فبلغ قرابة 54 مليار دولار، أي ما يقارب 23 في المئة من إجمال الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة. كذلك بلغ إجمالي التجارة في البضائع والخدمات بين البلدين عام 2024 نحو 39.5 مليار دولار، منها بضائع بقيمة قرابة 26 مليار دولار .

من الناحية السياسية، لا يمكن فصل هذا الانفتاح الاقتصادي التكنولوجي عن السياق الأوسع للعلاقات الاستراتيجية. فواشنطن تعتبر الشراكة مع الرياض وسيلة لتعزيز نفوذها التكنولوجي في الشرق الأوسط في مواجهة التحديات العالمية، بينما تسعى الرياض إلى تنويع شراكاتها من دون التفريط بتحالفها التاريخي مع الولايات المتحدة. وهكذا يشكّل الذكاء الاصطناعي أرضية جديدة للتعاون السياسي الاقتصادي، تجمع بين رأس المال السعودي والميزة التكنولوجية الأميركية في إطار يرضي الطرفين.
ومع أن الأرقام المُعلَنة – مثل حزمة الـ600 مليار دولار – تحمل طموحاً كبيراً، لا يزال التنفيذ العملي في بداياته، وتبقى التحديات التنظيمية والتكنولوجية قائمة، على صعيد نقل المعرفة وضمان الأمن السيبراني وحماية البيانات، وتعقيدات البُنى التحتية العالية الأداء. ومع ذلك يؤشّر الاتجاه العام إلى ولادة شراكة نوعية مختلفة، تُعيْد تعريف العلاقة بين البلدين بما يتناسب مع اقتصاد القرن الحادي والعشرين.
ليس الذكاء الاصطناعي مجرد قطاع جديد في خريطة الاستثمارات السعودية - الأميركية، بل هو "لغة الشراكة الجديدة" بين قوتين: الأولى تمثل رأس المال والطاقة، والثانية تمثل التكنولوجيا والمعرفة. وإذا كان النفط قد رسم في القرن الماضي ملامح التحالف بين الرياض وواشنطن، لا شك في أن الخوارزميات ومراكز البيانات تتجه إلى تحديد ملامح التحالف المقبل، إذ تمتزج التكنولوجيا بالاستثمار، والمصلحة بالاستراتيجية، في معادلة قد تُعيْد تشكيل التوازن الاقتصادي والتكنولوجي في الشرق الأوسط والعالم.
نبض