بينما تترقّب الأسواق العالمية الاجتماع الأخير للاحتياطي الفيدرالي الأميركي في ديسمبر، تتزايد التوقعات بأن البنك المركزي سيتجه إلى تثبيت أسعار الفائدة بعد عامٍ من التشديد النقدي المكثّف.
لكن خلف هذا الهدوء الظاهري، تدور في الأفق مؤشرات متباينة قد تحدّد مسار السياسة النقدية لعام 2026، وسط اقتصاد لا يزال متماسكاً رغم التحديات.

انعكاسات الإغلاق الحكومي تظهر تدريجاً..
الإغلاق الحكومي الجزئي الذي بدأ في أكتوبر لم يكن مجرد حدثٍ سياسي عابر، بل ترك بصماته على الإنفاق الحكومي والنشاط الاقتصادي. فقد أدى إلى تأخير صدور بعض البيانات الرسمية، ما جعل الأسواق تتحرك ضمن مساحة من الترقّب وعدم اليقين. ومع أن الأثر المباشر يبدو محدوداً، إلا أن تداعياته بدأت تظهر تدريجاً على بعض القطاعات الخدمية والاستهلاكية، وقد تنعكس على بيانات النموّ في الربع الأخير من العام.

النشاط الاقتصادي ينتعش رغم الضغوط
رغم تباطؤ الإنفاق الحكومي المؤقت، أظهرت البيانات الأخيرة انتعاشاً ملحوظاً في النشاط الاقتصادي الأميركي بوتيرة أسرع من المتوقع، مدعوماً بقوة الطلب المحلي ومرونة سوق العمل. ورغم انخفاض فرص العمل الجديدة، لا تزال معدلات البطالة عند مستويات منخفضة تاريخياً، ما يعكس قدرة الاقتصاد على التكيّف مع السياسة النقدية المتشددة. هذا التوازن بين سوق عمل مشدود ونموّ متسارع يعزز ثقة الفيدرالي بأن الاقتصاد ما زال يملك زخماً كافياً يسمح بتثبيت أسعار الفائدة دون المخاطرة بالركود.

التضخم يعود إلى الواجهة… وموسم الأعياد يزيد الضغوط
مع اقتراب موسم الأعياد، يرتفع الطلب على السلع والخدمات، خصوصاً في قطاعات التجزئة والطاقة والنقل. ورغم أن هذا النشاط يعكس قوة الإنفاق الاستهلاكي، فإنه يمثل في الوقت نفسه عامل ضغط إضافياً على الأسعار. وبحسب بيانات سبتمبر، ارتفع مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي (PCE) بنسبة 2.8% على أساس سنوي، وهو المعدل نفسه لمؤشر PCE الأساسي الذي يستثني الغذاء والطاقة، ما يؤكد أن التضخم لا يزال أعلى من المستويات المستهدفة البالغة 2%.

هذا يعني أن الفيدرالي قد يفضّل التريّث بدلاً من الخفض المبكر للفائدة، خصوصاً إذا استمرت الأسعار بالارتفاع مع موسم التسوّق الشتوي.

مؤتمر الفيدرالي الأخير… رسائل حذرة للأسواق
في المؤتمر الصحافي الأخير، شدّد رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول على أن الهدف لا يزال ثابتاً عند 2%، مضيفاً أن الطريق نحو تحقيقه “لم ينتهِ بعد”. وأشار إلى أن خفض حجم الأصول (الميزانية العمومية) سيتباطأ تدريجاً، حيث ستُقلّص حيازات الأوراق المالية حتى 1 ديسمبر، تمهيداً لإيقاف عملية "الانكماش الكمي" عندما تصل الاحتياطيات إلى مستوى يتناسب مع شروط السيولة الوفيرة. هذه التصريحات فُسّرت على أنها إشارة واضحة نحو الاستقرار النقدي المؤقت، لا التحوّل الكامل نحو التيسير.

الدولار يحتفظ بجاذبيته… والمعادن تستعد للانطلاق
من المتوقع أن يواصل مؤشر الدولار الأميركي أداءه القوي في الأسابيع المقبلة، مدعوماً ببقاء الفائدة مرتفعة واستمرار الطلب على الأمان والعائد المستقر. لكن في المقابل، يرى المحللون أن الذهب والفضة قد يشهدان موجة انتعاش جديدة مع بداية العام المقبل، خصوصاً إذا تباطأ التضخم من دون خفض سريع للفائدة. فإن أبقى الفيدرالي على أسعار الفائدة في ديسمبر وثبّت التضخم فوق الهدف، فستستعيد الملاذات الآمنة بريقها تدريجاً. وبالتالي، تمثل المستويات الحالية فرصة تمركز ذكية للمستثمرين استعداداً لدورة جديدة من التحوّط ضد التضخم وتقلّبات الأسواق.

ديسمبر على موعد مع الحسم..
كل المؤشرات الحالية تُظهر أن الفيدرالي الأميركي يقترب من مرحلة التثبيت الكامل بعد عام طويل من التشديد، لكنّه في الوقت نفسه يرفض إعلان النصر مبكراً على التضخم. الأسواق تتحرك اليوم على وقع الحذر، بين من يترقّب تثبيتاً مطمئناً يؤكد استقرار الأسعار، ومن يراهن على مفاجأة أخيرة قد تغيّر مسار 2026 منذ بدايته. وفي ظلّ اقتصادٍ ما زال يتمتع بمرونة، وبطالة منخفضة، وإنفاق قوي، يبدو أن الفيدرالي يفضّل التريّث على المخاطرة. فقرار ديسمبر لن يكون مجرد خطوة نقدية، بل رسالة ثقة بقدرة الاقتصاد الأميركي على المضيّ قُدماً في مواجهة الضغوط، دون التضحية بالنمو.
بين التثبيت والمفاجأة، سيبقى اجتماع ديسمبر نقطة فاصلة… ليس فقط في مسار الفائدة، بل في رسم ملامح السياسة النقدية لعام 2026، وما إن كان العام المقبل سيبدأ بنغمة الاستقرار — أم بإيقاع جديد تماماً.