مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" التاسع: السعودية ترسم ملامح اقتصاد عالمي جديد
تشهد العاصمة السعودية الرياض منذ الاثنين انعقاد النسخة التاسعة من مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار"، الحدث الذي بات يُعرَف بلقب "دافوس الصحراء"، وقد جمع في هذا العام أكثر من ثمانية آلاف من قادة العالم والمستثمرين والخبراء في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والابتكار.
أُقِيم المؤتمر تحت شعار "المفتاح إلى الازدهار: إطلاق آفاق النمو الجديدة"، وأبرز أن مستقبل الاقتصاد العالمي لن يُبنَى فقط على رأس المال، بل كذلك على الاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا معاً.
نُظِّم المؤتمر من قبل مؤسسة مبادرة مستقبل الاستثمار، تحت إشراف صندوق الاستثمارات العامة، الذي يتولى قيادة تنفيذ مشاريع "رؤية 2030" الهادفة إلى تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط.
في كلمته الافتتاحية، شدد محافظ الصندوق ياسر الرميان على أهمية الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي والاجتماعي العالمي، محذراً من اتساع الفجوة المعرفية والتعليمية بين الدول إذا لم يُستثمَر هذا التحول التكنولوجي في بناء الإنسان قبل الآلة. وأشار إلى أن ثلاثة من كل أربعة أشخاص حول العالم يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي قد يزيد الفجوة بين الدول الغنية والنامية، إن لم تُعالَج جذور الفجوة بالتعليم.
تميزت النسخة التاسعة من مؤتمر المبادرة بتركيزها على الذكاء الاصطناعي والمشاريع العمرانية العملاقة مثل "نيوم" السعودية، لكنها في الوقت نفسه قدّمت نفسها منصة عالمية للاستثمار في الإنسان بقدر ما هي منتدى لإبرام لصفقات.

أعلن القائمون على المبادرة أن قيمة الاتفاقيات التي أُبرِمت في الدورات السابقة تجاوزت 250 مليار دولار، ما يعكس عمق الحراك الاقتصادي الذي أطلقته المملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذه الدورة، وُقَِعت صفقات جديدة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والبيئة، وكُشِف عن شراكات في ميدان الذكاء الاصطناعي، بينها إطلاق شركة "هيوماين" السعودية منتجاً يحمل اسمها، "هيوماين 1"، وهو مخصص للاستخدام في المؤسسات الحكومية ويستهدف خدمة أكثر من 150 دولة من خلال مراكز بيانات مشتركة.
لكن الأهمية الأعمق للمؤتمر لم تكن في الأرقام وحدها، بل في الرسائل التي حملها. قدّمت المملكة مبادرتها كمنصة تجمع الاستثمار بالسلام، والتنمية بالاستقرار، انطلاقاً من قناعة بأن الاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا هو الطريق إلى بناء مستقبل أكثر توازناً. وفي هذا الإطار، لم يقتصر الحضور على صناع القرار الماليين، بل شارك فيه مفكرون وخبراء في التعليم والبيئة، إلى جانب رؤساء تنفيذيين لمؤسسات مالية عالمية، ما يعكس الرغبة في توسيع مفهوم الاستثمار ليشمل البعد الإنساني والمعرفي.
جاء انعقاد المؤتمر في لحظة تتجه فيها السعودية إلى تثبيت مكانتها مركزاً دولياً للابتكار والتكنولوجيا، بعد تحقيقها نمواً في الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 24% خلال عام 2024، وصولاً إلى 31,7 مليار دولار. وباتت الرياض اليوم مركزاً متصاعد الأثر في منظومة المال والأعمال العالمية، مستفيدة من بيئة تشريعية جاذبة ومن رؤية استراتيجية تتعامل مع التحول التكنولوجي كأداة اقتصادية ودبلوماسية في آن واحد.
وعلى الرغم من الحماسة الكبيرة التي تحيط بالتحولات التي يأتي بها الذكاء الاصطناعي، لا تزال أسئلة مطروحة حول قدرة هذه التكنولوجيا الطموحة على مواجهة تحديات الواقع. لقد شدد المؤتمرون على أن مشاريع البنية الضخمة تحتاج إلى وقت طويل لتؤتي ثمارها، كما أن الذكاء الاصطناعي يحمل فرصاً ومخاطر في آن واحد، إذ يفتح مجالات جديدة للإنتاج والابتكار، لكنه يهدد أيضاً بإعادة تشكيل سوق العمل على نحو جذري. ومع ذلك، فإن ما يميز التوجه السعودي هو أنه يوجه هذه التكنولوجيا لكي تكون فرصة لبناء منظومة جديدة أكثر إنصافاً وتوازناً.
في المحصلة، شكّل مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في نسخته التاسعة خطوة إضافية في مسار التحول الذي تعيشه المملكة منذ نحو عقد من الزمن. هو لم يكن مجرد حدث اقتصادي يُعقَد كل عام، بل منصة فكرية تسعى إلى صياغة مفهوم جديد للاستثمار يستند إلى الإنسان أولاً. وبينما تتجه الأنظار إلى النتائج العملية لهذه الطموحات، بدت الرسالة التي صدرت من الرياض هذا العام واضحة: من يملك رؤية للمستقبل، يملك القدرة على صناعته.
نبض