طلال حيدر... عميد شعراء اللهجة اللبنانيّة

لم يكن تكريم شاعر لبنان وبعلبك طلال حيدر على مسرح كركلا تعويمًا للشعر المحكيّ أو للشعر اللبناني، بل إشارة إلى تجربة شاعر اختصر لبنان بالكلمة والصوت. 
يقف طلال حيدر كواحدٍ من أبرز الشعراء اللبنانيّين، مجاوراً أسماء مهمة مثل جوزف حرب، سعيد عقل، والأخوين الرحباني. تجاوزت تجربته العين والشفتين نحو الأذن، فغنّت كلماته السيّدة فيروز، وعزفها على عوده مارسيل خليفة، فدخلت قصائده اللبنانية -بتعبيراتها الخاصة ونمطها الحداثيّ- في ذاكرة الناس ووجدانهم.
قصائد طلال حيدر رسمت بلغةٍ سهلة ممتنعة معالم القرية اللبنانية ويومياتها، ولامست بشفافيتها القضايا العربيّة واللبنانيّة. هذه التجربة الغنية الممتدة على مدار سنوات استحقّت تكريماً من الدولة اللبنانيّة ووزارة الإعلام، شارك فيه، قبل أيام، شعراء أثنوا على شاعرٍ اختزل بأعماله البعد الغنائيّ والإنساني في آن. 
الشاعر اللبناني شوقي بزيع يصف هذه التجربة بأنها "الخلطة الأكثر نجاعةً للإبداع، حيث الكتابةُ رقصٌ بارعٌ مع القيود، واصطيادٌ ماكرٌ لبرق الرأس. وفي هذا العالم الفردوسي الخلاصي، عالم ما قبلَ الخطيئة، الذي اجترحهُ طلالُ من عنديّاته، يتماهى عواء الشهوات مع تفتُّح الأنوثة البتوليّ، وتتقافزُ صغارُ الأقمار على سطوح المدن، فيما تتكفّلُ اللغةُ المجرّدة بعقد المصالحات بين الأضداد". 
وحين نأتي على ذكر الأضداد، نذكر أنّ قصيدة طلال حيدر، بالرغم من أنّها محكيّة ومكتوبة باللهجة اللبنانيّة، تتخطّى الوزن نحو المعنى والجماليّة. موضوعاته أيضاً متعدّدة ومفتوحة على الإنسان وكينونته في هذا العالم. 
ووفق ما يقول شوقي بزيع عنه: "الشعرُ عند حيدر معلقاتٌ على الريح، واحتفاءٌ بالمفقوداتِ. يلقي طلالُ على عاتق مخيّلتهِ الهذيانيّة مهمةَ التنقيب عن الدلالات الممحوة للحروف، التي تلبس حيناً لبوسَ يثربَ والأندلس وفلسطين، ولبوسَ الأنوثةَ الكونيةَ حيناً آخر. كما يظهر من جهة أخرى، وكأنه أورفيوسُ البقاعيّ الذي آثر التضحية ببعلبكَّ الواقع، لكي يخترع من عنديّاته بعلبكَّ التخيل، حتى إذا شرعت أصابعُهُ الراعشةُ بالعزف على أوتار الفقدان،  أصيبت الأشجارُ بالثمل، والصخورُ بالطراوة، والنجومُ بالحنين الدامع، فيما خرجت من أوكارها نسورُ القرنةِ السوداء لتُدَوْزِنَ تحليقَها على إيقاعِ كلماته". 
في قصائد طلال حيدر تختلط المباشرة بالتلميح والرمزية بالتأويل، فنذكر على سبيل التمثيل قصيدة "قومي اطلعي ع البال" التي غنّاها الفنّان مارسيل خليفة، فيقول: "واللي عم يصلّوا قلال/ صوتن متل مصر المرا وبعلبك الرجّال". 
ومن يقرأ مطلع القصيدة "بغيبتك نزل الشتي قومي طلعي ع البال" سيعتقد أنّها نصّ غزليّ يعيدنا إلى غنائيّة الشعراء الأمويين العذريّين لكنّها في الأساس تعريج على الأطلال مثل بعلبك ومصر، من دون أي "تلذّذٍ مازوشيٍّ بالألم"، كما يصفه بزيع، وإنما احتفاء بالوجود.
تشكّل إذن تجربة طلال حيدر الشعريّة تعايشًا شكليًّا مع النظام الشعري المحكي وأوزانه، وتنوعًا موضوعاتيًّا دفعه إلى تكوين تجربة فريدة جعلت من صاحبها صوتًا بارزًا في الشعر اللبناني والعربي عمومًا، واللهجة العاميّة خصوصًا.

لغة "زوربا البعلبكي"
طلال حيدر يمتلك لغة شعرية خاصة؛ وعن هذه اللغة تحدث الشاعر محمّد ناصر الدين لـ"النهار" قائلاً: "يتمتع طلال حيدر بلغة تحاكي تضاريس البقاع. لغته تضيء على الشكل الشعري المستحدث، وهو أسس شعرًا أنطولوجيًّا ينحدر من ذاكرة ثقافية وفولكلورية على حدّ سواء". تأتي هذه الفرادة أيضًا بنبرة بقاعيّة لغويّة لديها هاجس الماضي وهاجس التأويل الديني وفقًا للفكر". ويشير ناصر الدين، الذي سمّى طلال حيدر بـ"زوربا البعلبكي"، إلى أنّ شعره "يترك رعشة في القلب، وغصّة في الحلق، ويلسع الحواس والجوارح وقد تلاقت أطرافه".


راوٍ ينسج علاقته مع الزمن 
يبرز السرد في لغة الشاعر طلال حيدر وهي سمة تلاحق تجارب معظم الشعراء المحدثين في الشعر العربي. لكنّ تجربة طلال حيدر مختلفة عن بقية التجارب. وفي هذا الصدد تقول الأكاديمية والباحثة سارة ضاهر إنّ "طلال حيدر ليس شاعرًا فحسب، بل هو راوٍ بارع لحكاية الإنسان في علاقته مع الزمن والمكان والمصير". ثمّ تضيف: "في عالمه، الشعر هو صلة الوصل بين الحلم والواقع، وهو القدرة على منح الأشياء العادية جمالًا استثنائيًا يجعلنا نعيد النظر في تفاصيل حياتنا البسيطة".
وفي ما يتعلق بتلقّي القارئ لشعره، تعتبر ضاهر أنّ "ميزة شعر طلال حيدر هو هذا المزج الساحر بين بساطة الحياة وعمقها، حيث تجعل قصائده الإنسان يلتقي بذاته بين السطور. قصائده ليست مجرد كلمات تُلقى، بل هي إحساس يتغلغل في أعماق المستمع. فيها ألم الفقد وبهجة اللقاء، حنين الوطن ومرارة الغياب. كلّ مشهد صغير في يومياتنا يتحول في لغته إلى أيقونة شعريّة خالدة".
طلال حيدر هو صاحب بصمة شعريّة جعلت من لهجته الكتابية لغة قائمة بذاتها، عرجت على كلّ القضايا التي تدور في فلك عوالمنا، فاستحقّ أن يكون عميدًا للشعر المحكي اللبناني وواحداً من أبرز شعراء عالمنا العربي.