
في روايته الجديدة "عورة في الجوار" (دار نوفل، هاشيت/ أنطوان)، يتخذ الروائي السوداني أمير تاج السر من الواقعية الغرائبية فضاء روائياًّ للتعبير عن واقع موغل في ريفيّته، وقَبَليّته، وغرابته، وواقعيّته.
وبذلك، يتلاءم الفضاء مع الواقع المرصود، وهو الواقع السوداني، في هذه اللحظة التاريخية، وما يزخر به من صراعات مختلفة. ويتخذ من بلدة السيّال التي تدور فيها الأحداث معادلاً روائياًّ للسودان. ولعل أبرز مفردات الواقع المرصود في الرواية تتمثّل في: بيئة شعبية تؤمن بالأساطير والخرافات وتلجأ إلى الشعوذة والسحر في مقاربة المشكلات المطروحة، صراع قَبَلي مغلف بلبوس وطني، سلطة متداولة بواسطة الانقلابات العسكرية، مجلس نواب يهدر الوقت على توافه الأمور، وغيرها.
تشريع العورة
في بلدة السيّال ذات الساحة الواسعة، تشكّل واقعة قيام سائق اللوري سعيد الورّاق بركن عربته في الشارع المحاذي لبيت الرمّانة العوض التي لم يمض على زواجها بضعة أشهر، وتصريحه بعشقها، على الملأ، بالكتابة على جدار بيتها، وبالمناداة بأعلى صوته، الصخرة التي تسقط على صفحة الأحداث، وتحدث دوائر كثيرة تنداح حتى تلامس الضفاف، وتثير الكثير من ردود الفعل في مجتمع محافظ، يعتبر أن ما حدث هو عورة ينبغي إزالتها. لذلك، تتعدد محاولات الإزالة من جهات مختلفة في البلدة، لكنها تبوء جميعها بالفشل لاصطدامها بتشريعات سلطوية تشرّع العورة ومخالفات أخرى مختلفة. وبذلك، تتعاقب السلطات، وتتعدّد العرائض، وتكثر الوعود، وتبقى العورة مكانها.
مسار دائري
تتخذ الرواية مساراً دائرياًّ، فتنتهي الأحداث من حيث تبدأ، وتلتقي البداية والنهاية عند واقعة واحدة ثابتة، على تغيّر السلطات الحاكمة، وتتمثّل في الغضب الذي توقّعه الرمانة العوض وزوجها المهرج هارون مسلم وأربعة من عيالهما وجارهما الحسن بن زينب وجار آخر، ويرفعونه إلى الحاكم الجديد، القادم على ظهر انقلاب عسكري، مطالبين بستر العورة المكشوفة، طوال خمسة وعشرين عاماً، ويترقّبون تحقيق مطلبهم المزمن، غير أنّ شيئاً من ذلك لا يحصل. تتغيّر السلطات، وتستمر العورة مكشوفة، وتبقى المشكلة قائمة.
وبين البداية والنهاية، تتعدّد الوقائع الناجمة عن سقوط صخرة العورة على صفحة الأحداث، وتتمظهر في محاولات مختلفة محلّية لستر العورة، تقوم بها شخوص مختلفة، وإذ تصطدم هذه المحاولات بلائحة الشوارع التي تحدّد مجالات استخدام الشوارع، الصادرة عن السلطة الحاكمة، في اليوم التالي لانكشاف العورة، يلجأ المحاولون إلى وسائل غير سلطوية لسترها. والمفارقة أن صاحب العورة سعيد الوراق والشخوص الأخرى في الرواية ينخرطون في غرائبية الأحداث، يتقاطعون في غرابة الأطوار. على أن منسوب الغرائبية يختلف من حدث إلى آخر، ودرجة الغرابة تتفاوت بين شخص وآخر، ما يجعل اصطناع الواقعية الغرائبية فضاء للرواية خطوة في الاتجاه الصحيح.
غرائبية الأحداث
في غرائبية الأحداث، يقدم سعيد الوراق على ركن عربته قرب بيت الرمانة العوض، ويجاهر بعشقه لها في مجتمع محافظ ولا يجرؤ أحد على التعرّض له، ويلازم عربته خمسة وعشرين عاماً. تقوم السلطة الحاكمة بتشريع فعلته النكراء في اليوم التالي لارتكابها. يستعين منظّر البلدة الروحي سعيد التكروري معالجة بالجن لستر العورة، ويعالج مشكلات الناس بالسحر والشعوذة. يُطالب النائب سليمان مختار عقارب بتعيين مهرّج للبلدة. يُخصّص مجلس النواب عشرين جلسة لمناقشة الطلب. يُختار هارون مسلم للوظيفة المطلوبة، ويُرسل إلى المدينة للتدرّب على التهريج. يُروّب الفقيه داود الأقرع الماء، في إحدى الليالي، ويقدّمه عشاء للضيوف. تقوم رابطة الكذب التي تضم الجدات والماشطات وضاربات الرمل وراميات الودع بممارسة أعمالها في وضح النهار. هذه الأحداث تتجادل مع أخرى واقعية في إطار الحكاية العامة، وتطبع الرواية بطابعها، وتشي بالعالم المرجعي الذي تحيل إليه.
غرابة الأطوار
تتفاوت درجة الغرابة من شخصية إلى أخرى، ولعلّها تبلغ الذروة مع سعيد الوراق صاحب العورة، ذي الألقاب المتعدّدة والسلوك المختلف؛ فهو، في الصغر، يرتكب السيئات ويجاهر بارتكابه إياها خلافاً للآخرين، ويتسبّب لأمّه سعدية المبارك بأزمة أمومة، فيخيب أملها فيه، وتروح تلتمس سبل معالجته لدى السحرة والمشعوذين.
وهو، في صباه، يتمرّد على العادات والتقاليد في الشكل والزي والسلوك. ويبلغ تمرّده الذروة، في شبابه، حين يركن عربته بجوار امرأة متزوجة، ويجاهر بعشقه لها، ما يُعتبَر عورة مكشوفة، في وسط محافظ، تستدعي الستر، الأمر الذي يحاوله بعضهم ويخفقون فيه، في ظل سلطة تشرّع العورات.
يليه في الغرابة شعيب التكروري، المنظّر الروحي للبلدة الذي تعهد إليه السلطة اختيار المرشح لوظيفة مهرج، ويقوم ببيع السحر وعروق المحبة، ويختلف عن الآخرين في الصوت والشكل والزي، ويؤثّر سلباً على عمل "عضوات" رابطة الكذب، ويحاول ستر العورة مستعيناً بخدّامه الأوفياء من الجن، وحين يفشل في ذلك، يقلع عن محاولاته.
ويأتي في الدرجة الثالثة من الغرابة المهرج هارون مسلّم، زوج الرمانة العوض، الذي لا يجرؤ على التصدي لعرضه المنتهك، ما يعكس عجزه المفرط وافتقاره إلى المروءة. وهو، منذ حداثته، محدود الأفق، يعزو كلّ شيء إلى الشياطين. نزق الطباع، يرجم بعثة أوروبية تزور البلدة بالحجارة بذريعة أن أعضاءها شياطين. متهوّر المراهقة، تعرض عنه الصبايا. جبان، يطلي جلده بدهان معيّن، ويتخفّى بين طاولات مرصوصة. ولعل هذه الصفات تفسّر عدم انتفاضته لعرضه المنتهك وإخلاده إلى قضاء الوقت في المسرح هرباً من مواجهة الواقع.
ولا تقلّ شخصية النائب سليمان مختار عقارب غرابة عن الشخوص آنفة الذكر،فهو صاحب اليد الذكية الذي يشمّ الآخر بمجرد مصافحته، ما يجعل الحكومة تستخدمه لاستكشاف نيات بعض المصافَحين. وهو على قدر كبير من السخف حين يجعل جلّ همه البرلماني المطالبة بمهرّج لبلدته. وهو يفشل في إقناع صاحب العورة بسترها حتى بعد أن أقدم على عضّه في أذنه، ويتراجع عن محاولته بعد أن هدّده الأخير بإفشاء سرّه المتعلّق بتعرّضه للعضّ من كلب مسعور، في زقاق مظلم، خلال زيارة ليلية مشبوهة.
إلى ذلك، نجد الغرابة، بدرجات أقل، لدى الرمانة العوض المرأة المتمرّدة على التقاليد، منذ نعومة أظفارها، التي تنزع إلى الاستقلالية والاعتزاز بالنفس، وتحجب خصوصياتها عن الفضوليات من النساء. ونجدها لدى شاخر سوار الذي يمارس كشف المستور وإماطة الأذى والمعمول، ثم يعتزل الدجل لينقطع إلى التسوّل. ونجدها لدى الفقيه داود أقرع الذي يُنسَب إليه ترويب الماء وتقديمه لبناً للضيوف ويتداوى بعضهم بغبار ضريحه.
وخلاصة القول، إننا إزاء واقع متخلّف موغل في الجهل والبدائية والتسلّط والتفاهة، يؤمن بالسحر والشعوذة، يعالج مرضاه بالرقى والتعاويذ، ينتهك المواضعات الأخلاقية، يتمرّد على العادات والتقاليد، يُشرّع المخالفات، يهدر مجلسه الوقت على السفاسف، يقدّم نوابه الكماليات على الضروريات، ينخرط في صراعات قَبَلية مغلّفة بغلاف وطني، وتُتَداول السلطة فيه بالانقلابات العسكرية.
هذا الواقع الغريب يعبر عنه أمير تاج السر بفضاء روائي واقعي غرائبي، وبلغة أدبية تؤثر المداورة على المباشرة في التعبير، وتستخدم السخرية بطعميها، الحلو الذي يدفع إلى الضحك والمر الذي يبعث على البكاء. وبذلك، تجتمع في "العورة في الجوار" غرابة الواقع وغرائبية الفضاء، ما يجعل عملية القراءة نوعاً من التحليق الخيالي على أجنحة الورق.