لافت جداً موت البطل التقليدي في الأعمال الدرامية السورية القوية هذا العام، البنية التركيبية للعمل اختلفت، وأمام التطور الأخير في القص ستصبح بعض الأعمال السورية جداً تقليدية، ومفهوم البطل درامياً اختلف، لم يعد كما قدّمته يوتوبيا الدراما الكلاسيكية الغربية والعربية؛ نزيهاً مقدّساً معصوماً عن الخطأ وفي أفضل الأحوال مغرراً به أو أنيقاً ورومانسياً ومغلوباً على أمره، ثمة نعوة للبطل هنا، الدراما السورية تهبط بنا إلى الواقع؛ إلى مجتمع منهار وجحيم فيه كل الأبطال آثمين جائعين شرسين مقاتلين متخاذلين وسفلة، إذن لم يعودوا شبه آلهة وصفة الإنسانية سقطت عليهم وأخيراً، وجعلتهم حقيقيين بشريين، ومن اللافت أن يعتمد عملان مثل "مال القبان" و"ولاد بديعة" على إضاءة سوداوية تشبه المزاج الدرامي بالضبط.
في "مال القبان" السوري، من كتابة علي وجيه ويامن الحجلي، نرى تطور الكتابة الدرامية لدى الثنائي، بحيث يتبع الثنائي تيمة زمنية تقص الحكاية وتكثفها بين ماضٍ وحاضرٍ، يجعلنا نتراجع للخلف زمنياً حتى نصل الى الحاضر.
أنت هنا عالق في بؤرة الحدث؛ حتى الآن القص يسير باقتدار موجز محكم لا تطويل وثمة سرد لحدوتة غياب البطل، وقتله على يد الشر المجتمعي والجشع، وخروج المعتقلة السياسية دكتورة رغد (سلاف فواخرجي) أثار ضجّة في الصحافة عن جرأة العمل، فهي تؤدي دور المعارضة، ونراها في مشهد أول ممدّدة على الأرض داخل زنزانة وجهها معفر وتتجّه نحو صيدلية لتشتري شامبو ودواءً للجرب، لتفاجأ أنّ سعره أصبح 20 ألفاً! وهو راتب موظف من سنوات قريبة خلت!
تجلس على الرصيف يناولها أحدهم وقد ظنّ أنّها متسولة، مبلغ 2000 ليرة تنفجر بالضحك... ربما على حالها أو حال الدنيا، ويمكنك أن تلاحظ جيداً في المسلسل أنّ العملة الخضراء الممنوعة في سوريا متوفرة بيد العاهرات "كأجرة ليلة" تحملها بيدها إحداهن بعد أن تنزل من سيارة تتصيّد النساء قرب كشك قواد علناً!
وجه القاضي فارس (خالد القيش) صراخه المؤلم عندما يوقف سيارته على عقدة شبكة المواصلات على طريق سريع رئيسي، وهو يشعر بالضآلة، بعد أن تخرج زوجته السابقة رغد من السجن كافٍ لخلق مناخ واضح للعمل.
من اللقطة الأولى في المسلسل، تهبط عدسة المخرج سيف سبيعي من الأعلى نحو القصر العدلي في دمشق، ونهبط معها على الأرض نحو التراجيديا المجتمعية أو الواقعية التي يرفضها البعض، لقاء فارس ورغد مشحون بانفعال عاطفي كبير، لكن القاضي محاصر بالفساد من حماه نعمان الزير والد زوجته الجديدة، وهي مساحة إضافية للحصار على البطل والقيم المجتمعية وسط خراب ضخم، ويقوم بدور نعمان الزير بسام كوسا القدير.
"أولاد بديعة"... الكل مدان
في "أولاد بديعة" الكل قذر ولا ينتظر شهادات شرف، والكل غرّر ببديعة الأم وطعنها، المسلسل مختلف درامياً بالحبكة والحكاية ويتصدّر الدراما المعاصرة، هو جديد ولديه عبرة ومليء بالجنون والعبثية؛ نحن أمام ثلاثة أولاد بالحرام ربّتهم المشرّدة بديعة، والتي أدّت دورها إمارات رزق التي تردّد طيلة العمل كلمتين فقط "يا كريم".
نرى خلال صراع أبنائها على الورثة رمزية تحولات المجتمع السوري وخرابه، المسلسل عامر بمناخ ليلي حاد من نوع الملهاة المأساة، لكنه برمزية سينمائية في شقه الغالب بين القطارات ومحطات الحياة، وفاء لنهج اعتمده الكاتبان علي وجيه ويامن الحجلي في نصوصهما السابقة: "مع وقف التنفيذ" و"على صفيح ساخن" وهو أصفر، وسنرى أنّ أسماء أعمالهما السابقة بدأت بالظهور هنا في الحوار تتويجاً لمشروع درامي.
جميع أبطال العمل أبطال حقيقيون من لحم ودم، هم شرسون كما يلزم لسقوط مرحلة تقديس البطل ليكون أكثر بشرية، أبطال العمل يتجولون في عالم الملاهي الليلية التي تحتل قلب دمشق القديمة وحواريها: هناك يقوم ملهى سكر (سلافة معمار) ابنة بديعة طفلتها التي التقطتها من الحاوية، فيما يستحوذ شقيقها شاهين "سامر إسماعيل" على ورثة والده وشقيقه ياسين "يامن الحجلي" بأن يحفر قبره أبيه عارف الدباغ "فادي صبيح" ويبصمه على أوراق الورثة وهو ميت، ويجسّدان مفهوم الشر المبرر بالعنف المتبادل بشخصيات مركبة مليئة بالخير وتحتدم بالشر أيضاً؛ هم أبناء المسلخ البشري داخل الدباغات، والعنف والسلب لن يكون مهنة جديدة على الشابين للاستحواذ على السوق وسط تنافس مع دباغ آخر يدعى أبوهديل "يقوم بدوره حسين عباس، بدوره مختار "محمود نصر"، الابن المدلل والشرعي لعارف هو قاتل ومريض نفسي، أداء محمود نصر كمريض نفسي يستلب العمل بحركة عينيه وعصبيته والأصوات التي يهلوس بها ونسمعها معه، كل هؤلاء الأبطال صنعوا عملاً مختلفاً نتابعه.
البحث عن الذكورة في الرهانات بين الديك السوري والتركي لها حضورها بين بسطاء العمل وفقرائه، وارتفاع روح أبو الوفا (تيسير ادريس) صديق عارف في ما يشبه المعجزة بليلة المولد النبي بكل رمزية مقام الأربعين في دمشق يحمل رحيلاً ساحراً لرجل وفي غادر الحياة بهدوء وبغفلة من الجميع، والموسيقى التصويرية للعملين تشبه حزناً جنائزياً مستمراً، "مال القبان" (من إخراج سيف سبيعي وإنتاج إيبلا)، و"اولاد بديعة" للمخرجة رشا شربتجي (من إنتاج بنتالنز) لدينا حس متعاطف مع أبطال العمل، بلا أي أحكام مسبقة، وهو شرط الدراما تخليصنا من التراكمات والمحاكمات الفكرية كمشاهدين والمضي بنا بعيداً، بخاصة في مشهد الولادة القاسي عندما لفظت بديعة التوأمين للحياة وحيدة وطفلتها سكر قربها، في مشهد يروي لنا معجزة، ولعلّ حياة هذه المرأة وأطفالها هي إحداها، ومهمّة الدراما أن تقدّم لنا ذلك وتوصله بإحساس عال.