50 عاماً على رحيلها... أم كلثوم لا تزال خبز أيّامنا!

خمسون عاماً في صحبة صوتها. ومع أن جسدها توارى غائباً، ظلّت تصدح من الراديو في بيتنا الريفيّ. لم تكن أغنياتها العاطفية أكثر ما يلفتنا إليها، ولا قوّة صوتها بمساحته الواسعة، وإنّما درامية الأداء ورهافة الحسّ التعبيري. ففي أغانيها تقيم حوارات بين الأفكار والمشاعر والذكريات.
لا تعبّر أم كلثوم فحسب عن خلجات المشاعر واحتمالات الحبّ، من الهجر والصبر والانتظار والذكرى و"قصة الأمس" و"أغداً ألقاك"، و"رقّ الحبيب" وقسوته، و"أطلال" الحبّ، وإنما تقدم أيضاً التعبير الدرامي والعاطفي الأمثل عن مشاعرنا القومية.
ففي أغانيها تتعانق الأذنان مع أجراس الكنائس، وشعر شوقي الرفيع مع أزجال بيرم التونسي، وغراميات رامي المهموم بين الصدّ والأمل، مع ظلال خطب عبد الناصر الثورية. كأنّها تستدعي في لعبة مزدوجة ألم الذاكرة الخاصّة ممزوجاً بفخر ذاكرة قومية عمرها آلاف السنين.
لم تؤسس فضاء لغوياً فقط وإنّما أسست فضاء مكانياً، فالمقاهي العربية في شتى المدن تحمل اسمها "كوكب الشرق" أو "أم كلثوم"، وإن لم يحضر الاسم حضرت صورها الأيقونية بفساتينها المحتشمة المزركشة ورفع يديها لأعلى كأنّها في مناجاة روحية.
لذلك، تراجع سحر المطربين بينما بقيت هي حارسة فضاءاتنا العاطفية والجغرافية، تسمعها بعد منتصف الليل في سيارة تمرّ مسرعة، أو يهبط إليك صوتها من نافذة عالية في زقاق معتم، وقد يتلاشى صوتها وينسحب شيئاً فشيئاً في عمق الظلام، لكنه سرعان ما يستيقظ مجدّداً مع الصبح وهو يتنفّس: "يا صباح الخير يا اللي معانا"، كأنها تحرس بصوتها الزمان والمكان معاً، البشر والبيوت والحكايات، تضفي على كل شيء "الونس" والأمان.
وقد حدّثني أصدقاء من غزة كيف احتموا بصوتها من دويّ الطائرات وقنابل العدو، كتب أحدهم عن آخر أغنية سمعها مع أبيه وأمه قبل أن يغتالهما قصف غاشم.
طوال سنوات شغلني ذلك الحضور الذي يجدّد نفسه بنفسه، مثل أسطورة زهرة اللوتس المصرية، ذلك الموت الموقّت والولادة الأبدية باستمرار، فتوصلت إلى اقتناع بأنّها ليست امرأة كسائر النساء، وإنما هي نفحة سماوية، لذا اعتبرتها تجلياً إيزيسيّاً.
إيزيس التي خاضت رحلة الألم والدموع كي تلملم أشلاء جثة زوجها الحبيب من شمال مصر إلى لبنان، أرادت أن تقهر الموت بالحبّ، وتلملم شمل أسرتنا الأولى حيث الأم والأب والطفل الملك.
ولأنّ الأساطير لا تموت ـ كما يخبرنا علم الفولكلور ـ وإنما تعاود التكرار وتستأنف الوظائف ذاتها، فثمة أمومية متصلة روحانية حامية، جعلت أم كلثوم ترتقي عندي إلى مرتبة القداسة؛ فيقال إنّه فور علمها بنكسة حزيران (يونيو) اعتكفت أياماً في بيتها لا ترى أحداً، وخرجت الألسن آنذاك تطعنها بأنّ حفلاتها سبب النكسة، وكأنّه لوم لا شعوريّ للأم التي لم توفّر لأولادها الحماية من مغول العصر.
وهنا هاتفها صوت داخلي ـ أو سماوي ـ فخرجت من اعتكافها وخاضت رحلة النضال الإيزيسية تلملم جسد الوطن، تغنّي في مدنه وتجمع الأموال والذهب، تسافر إلى بيروت وتونس والمغرب والسودان والكويت، وإلى باريس، وحتى موسكو وهناك وصلها خبر وفاة عبد الناصر فسقطت على الكرسي، لأنّها كانت مفاجأة صادمة لوعيها في اللحظة التي أحسّت فيها أنّ النصر قريب.
مع ذلك، عادت وواصلت نضالها الفريد، وفي آخر حفلة لها شدّت "ليلة حب" و"القلب يعشق كلّ جميل"، كأنّها تصلّي بالملايين صلاة وداع، تذكّرنا بحب الله والوطن، غيّرت بعض كلمات الأغنية كي تدعو لبلدها بالنصر، ولم تمرّ سوى أشهر قليلة واستجابت السموات لدعائها.
استمرار أسطورتها لا يعود إلى ذلك الولع بالكمال والجمال فحسب، ولا العصامية الفريدة لطفلة فلاحة فقيرة أصبحت ملكة غير متوجة، وإنّما لأنّها جزء من قصتنا الشخصية مع الحياة. ففي داخل كلّ منّا أمّ كلثوم خاصة به، ملايين النسخ منها صنعت أسطورتها الحية.
هذا ما استوقفني حين كتبت روايتي "مجانين أم كلثوم". لم أرد الكتابة المباشرة عن سيرتها المعروفة، وإنما عن سيرتها الأسطورية كما اخترعها الملايين. قرأت تعليقات آلاف المحبين على أغانيها ونسخت قصصهم الصغيرة بلهجاتهم المحلية.
كنتُ في الحقيقة مشغولًا بتتبّع جسدها الأسطوري وصوتها السماوي وهو يصدح في طنجة، فيسمعه عجوز طيب في مسقط وهو يجلس مع زوجته ويتأمل لهو أحفاده مبتسماً.
اقتباسات:
طوال سنوات شغلني ذلك الحضور الذي يجدّد نفسه بنفسه، مثل أسطورة زهرة اللوتس المصرية، ذلك الموت الموقّت والولادة الأبدية باستمرار...