محمّد بكري حمل الكاميرا لأنه لم يجد في يده قنبلة!

ثقافة 30-12-2025 | 00:10

محمّد بكري حمل الكاميرا لأنه لم يجد في يده قنبلة!

"كينونتي، مقاومتي، وحتى لغتي، كلها تشكّلت باعتبارها استجابات لما يحدث حولي".
محمّد بكري حمل الكاميرا لأنه لم يجد في يده قنبلة!
محمّد بكري (1953 - 2025).
Smaller Bigger

في أول لقاء جمعني بمحمّد بكري، خاطبني بنبرة تمزج بين المزاح والجد، قائلاً إنه يتمنّى لو أطلب من "حزب الله" الكفّ عن قصف منزله. كان ذلك في معهد العالم العربي، في خضم حرب تموز 2006، يوم كان مكان اقامته في فلسطين المحتلة يتعرض لـ"نيران صديقة". عانى بكري، الراحل قبل أيام عن إثنين وسبعين عاماً، من الملاحقة الملحمية لإسرائيل له بسبب فيلم، كما من عسف العرب تجاه فلسطينيي الداخل: قيود على السفر بسبب الجواز، اقصاء لأعمالهم… بالإضافة إلى خيبة أمل شخصية من "الربيع العربي" الذي تحوّل في نظره إلى ما يشبه ثورة "الدواعش". عندما تسأله عن هذه التجارب، يرد بنبرة الحكماء: "وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على المرء من وقع الحسام المهنّد".

سطع نجم بكري في التمثيل وهو في الثلاثين، من خلال دوره في "هانا كـ." للمخرج اليوناني الفرنسي كوستا غافراس. منذ ذلك الحين، أي في مطلع الثمانينات، شاهدناه في أفلام عديدة، إسرائيلية وعربية وإيطالية وفرنسية، وبالطبع فلسطينية، واقفاً مراراً أمام كاميرا مواطنيه، مثل رشيد المشهراوي وميشال خليفي وآن ماري جاسر التي أسندت اليه أحد أجمل أدواره في "واجب"، إلى جانب ابنه صالح بكري. لكنه شعر في أواخر التسعينات، بالحاجة إلى الانتقال إلى الجانب الآخر من الكاميرا، ليصبح الراوي. يتذكّر: "شعرتُ بأن الأفلام التي أود صنعها لن يصنعها أحد غيري. كنتُ مجرد إنسان يدافع عن روايته الممنوعة في إسرائيل، لأن إسرائيل، منذ ستين عاماً، كانت تروي روايتها المضادة لروايتي. أول أفلامي، "1948" أنجزته في عام 1998، وهو عن مرور 50 عاماً على النكبة. كان وقع هذه اللحظة مضاعفاً في ظلّ انشغالنا بالخطب السياسية التي، وللأسف، لا تزال مستمرة. هذا، في الوقت الذي كانت إسرائيل تحتفل بمرور خمسين عاماً على "ميلادها"، مدعومة بمسلسل تلفزيوني ضخم بعنوان "توكوما" (أي "النهضة" بالعبرية) يروي تاريخ قيام الدولة الإسرائيلية على أنقاض بلادي، شعرتُ بضرورة انتزاع آلة التصوير وإعطاء صوت لمَن لا صوت لهم. ثم أتممتُ "جنين جنين" عن اجتياح الإسرائيليين لمخيم جنين عام 2002، مرة أخرى بعد شعوري العميق بأني إذا لم أدخل المخيم وأوثّق ما يحدث فيه، فلن يفعل أحد غيري ذلك. أما فيلمي الثالث، "من يوم ما رحت"، فكان ينبع من احساس قوي بأن عدم إنجازه يعني خيانة لنفسي ولتاريخي، وحرمان العالم من سماع صرختي. جاء "جنين جنين" نتيجة اندلاع الانتفاضة الثانية، التي بدأت بمقتل ثلاثة عشر شاباً في الناصرة والجليل وأماكن أخرى، في وقائع صارت رمزاً لبداية صرخة شعب بأكمله. لكن القشّة التي قصمت ظهر الجمل، هي اللحظة التي أطلق فيها جندي إسرائيلي النار على الممثّلة فالنتينا أبو عقصة، التي كانت ترافقني إلى تظاهرة ضد اجتياح جنين. حين اندحر جسدها على الأرض، تساءلتُ فوراً: إذا كان الجندي يطلق النار على الممثّلين، فماذا يفعل بالناس العاديين داخل المخيم؟ في تلك اللحظة، أدركتُ أن قصّتي يجب أن تُقال".

 

مع ابنه صالح بكري في ”واجب“.
مع ابنه صالح بكري في ”واجب“.

 

اعترف بكري غير مرة ان الظروف هي التي فرضت عليه أن يكون مخرجاً سينمائياً. "حملتُ الكاميرا لأني لا أملك قنابل"، قال المخرج الألماني راينر فرنر فاسبيندر ذات مرة. جملة كان يمكن ان ينطق بها بكري أيضاً. "إني ممثّل فحسب. لكن حين ألتقط شيئاً بالكاميرا، أسمح لعقلي بأن ينتقل إلى قلبي، لأعمل وفق ما يمليه عليّ إحساسي. لا ألتزم قوانين السينما الجامدة، لذلك لا أستطيع تحديد ما سيحدث داخل الكادر إلا حين تدور الأحداث أمامي. أترقّب الإنسان أمام عدستي، وأستمع إلى صوته الداخلي، لأرى كيف يرغمني على تصويره. عملي كله قائم على شعور داخلي خاص".

لم يخفِ بكري في لقاءات صحافية عدة أجريتها معه، انه يُعامَل منذ طفولته كضيف غير مرغوب فيه، "مع أن الضيوف غير المرغوب فيهم هم مَن جاؤوا إلينا، ليس نحن مَن ذهبنا اليهم". حاولوا التخلّص منهم، وبالفعل تخلّصوا من القسم الأكبر من سكّان فلسطين ودفعوهم إلى الشتات، ولم يتبقَ إلا 155 ألف شخص. هكذا فتح عينيه على ما يُسمى بدولة إسرائيل. لذلك، شبه مستحيل في نظره إنجاز أفلام فلسطينية خارج دائرة ردّ الفعل، لأن حياته وحياة مواطنيه باتت ردّ فعل متواصلًا. "كينونتي، مقاومتي، وحتى لغتي، كلها تشكّلت باعتبارها استجابات لما يحدث حولي. لكن ردّ الفعل، مهما يكن حتمياً، لا يكفي في ذاته، اذ يجب أن يُصاغ فنّياً، لا أن يُقدَّم كخطاب مباشر أو توثيق معلوماتي جاف. يقلقني الحزن كثيراً. حتى وسط الدمار، أحاول أن أتمسّك بالابتسامة. الطفل الذي في داخلي لا يزال حيّاً، ولا يرى معنى لحياة بلا ابتسامة. في الحقيقة، يؤلمني الإفصاح عن ألمي. كم تمنيتُ أن أظهر سعادتي، وأن أقول إن حياتي تشبه حياة سائر البشر. كنت أطمح إلى إنجاز أفلام أخرى تعالج قضايا اجتماعية، لكنهم لم يتركوا لي خياراً آخر".

إتقانه العبرية أزال الخوف من أحشائه. لم يعد يخشى أحداً. علّمته اللغة أن يبتعد عن الشعارات والمباشرة في الخطاب السياسي، وأن يكون بسيطاً وشفّافاً في الوقت نفسه، مع القدرة على مفاجأة الآخر. كما جعلته يتدبّر أموره بسرعة، لأن الإسرائيليين يتصرفون على هذا النحو، ويرغمون الآخرين على التصرف بسرعة لاستباق المواقف. "هذه الأمور يغفلها مَن لا يتقن العبرية مثلنا نحن عرب الداخل، الذين نعيش ظروفاً جغرافية واجتماعية مختلفة عمّا هي حال أبناء المخيمات الذين ينظرون إلى العدو كجندي أو طيار يقصفه، في حين أنا أراه من منظور آخر، لأني أعيش معهم وأرى ما لا يراه الفلسطيني البعيد عن الوطن. هذا يجعل مسؤوليتي أكبر".

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 12/29/2025 6:20:00 PM
القادة هم: أبو عبيدة ومحمد السنوار ومحمد شبانة ورائد سعد وأبو عمر السوري.
اقتصاد وأعمال 12/29/2025 5:34:00 AM
"بات من مصلحة المكلفين التصريح عن مداخيلهم وتسديد الضرائب ضمن المهل القانونية، تفاديا لرفع السرية المصرفية عن حساباتهم"
الولايات المتحدة 12/28/2025 10:20:00 PM
رجل  يقتل تسعة أشخاص، بينهم خمسة أطفال، طعنا بالسكين ليل السبت الأحد في شرق باراماريبو، عاصمة سورينام الدولة الصغيرة الناطقة بالهولندية في شمال أميركا الجنوبية
لبنان 12/29/2025 12:37:00 PM
سمير جعجع دعا إلى عدم التصويت لمحور الممانعة أو "التيار الوطني الحر"