الله خلق أسطورة باردو وبريجيت قتلتها!

ثقافة 28-12-2025 | 23:27

الله خلق أسطورة باردو وبريجيت قتلتها!

في زمن جرى فيه "تخريب" كلمة أيقونة، لا خوف من القول إن هذه الكلمة وُضِعت لإنصافها.
الله خلق أسطورة باردو وبريجيت قتلتها!
بريجيت باردو (1934 - 2025).
Smaller Bigger

حملت بريجيت باردو أشهر حرفين في تاريخ السينما: BB. هذان الحرفان تغزّل بهما سيرج غيسنبور في أغنيته قبل أيام قليلة من ثورة أيار 1968، مداوياً جرح تخلّيها عنه. كتب في الأغنية: "تنتعل حذاءً طويلاً وكأنه كأس مقدّسة لجمالها، لا ترتدي شيئاً سوى قليل من عطر غيرلان في شعرها". مرت السنوات، وبقي اسم باردو متربّعاً على قمّة النجومية. دخلت "بانتيون" الخالدين بشينيونها وابتسامتها المشاكسة، ولم يخب بريقها في الذاكرة، رغم أن آخر ظهور لها على الشاشة كان قبل أكثر من خمسين عاماً. وقد اقتصر حديث الصحافة عنها أحياناً على تعليقاتها الحادة في شأن البشر، هؤلاء الذين زاد الزمن احتقارها لهم. ظلّ اسم باردو يُتداول عبر الأجيال: أحبّتها النساء بقدر ما عشقها الرجال، واستمر صدى الاسم يتردد في الحاضر، بينما الماضي كان حصنها المنيع. هكذا أرادت أن تُخلّد صورتها: معلّقة في مكان ما في أواسط القرن الماضي، مجمّدةً كإيبرناتوس بين الثلوج. هي التي كتبت أول كلمة في مسيرتها، وهي التي وضعت نقطة الختام. بريجيت خلقت باردو، وهي التي قتلته بملء إرادتها ووعيها وعن سابق اصرار وترصد.

في زمن جرى فيه "تخريب" كلمة أيقونة، لا خوف من القول إن هذه الكلمة وُضِعت لإنصافها. أضف إليها عبارة: رمز جنسي، رمز لتحرر المرأة، رمز لفرنسا على طريق التحرر في زمن ديغول، رمز للاغراء على الشاشة، رمز للنضال من أجل حقوق الحيوانات، ورمز لرفض الشهرة. ضع أي رمز، وستبقى مقصّراً في حقّها. فباردو كاراكتير لم يُروَّض، روح لم تلن، وقد استحال تطويعها. مدّتها الحياة بكلّ شيء: جسد تمنّته النساء، وعشّاق فرشوا دربها بالورود، لكنها فضّلت البساطة. صنعت من اللامبالاة بما يُقال في شأنها علامتها التجارية.

 

باردو في ”وخلق الله… المرأة“.
باردو في ”وخلق الله… المرأة“.

 

"وخلق الله… المرأة"، أرسى أسس أسطورة باردو بدءاً من صيف عام 1956. كانت بريجيت متزوجة من روجيه فاديم، ابن مهاجر أوكراني، منذ أربع سنوات، وكان الأخير يسعى لإخراج فيلم عنها. بمزاجها المعكّر بالفطرة وحضورها الحرّ، أحدثت باردو قطيعة مع الكثير من الشخصيات النسائية التقليدية في تلك الحقبة، لتصبح امرأة تهيم بالأحداث مدفوعةً بالرغبة والشغف، متجاوزةً قيم البورجوازية والأخلاق التقليدية التي نشأت عليها. ولعل أحد المشاهد الأكثر تعبيراً هو عندما وضعت قدمها فوق عنق رجل نائم على الشاطئ، رأسه في الرمال. شريكها في التمثيل، كورد يورغنز، رأى فور مشاهدة الفيلم أن بريجيت يجب أن تكون النجمة الوحيدة للفيلم. من دون أن ننسى سحر سان تروبيه وألوانها الدافئة، بحرها وشمسها، وكلّ التفاصيل التي تخاطب الحواس. لكن الطريق لم يكن قصيراً، اذ كان عليها أن تعبر المحيط إلى أميركا، حيث اندفع الجمهور بشغف ليتنشّق ذلك العبق المتوسطي، الممزوج بالدلال. لم يكن صنّاع الفيلم يعلمون أنهم يصنعون التاريخ، أو حجم التأثير الذي سيتركه عملهم لاحقاً. وهكذا اندلعت ثورة باردو، قبل أن تمتد إلى العالم كله.

 

مع هنري جورج كلوزو أثناء تصوير ”الحقيقة“.
مع هنري جورج كلوزو أثناء تصوير ”الحقيقة“.

 

"الاحتقار" لغودار قد يكون أكثر أدوار باردو تجسيداً للفكرة السينيفيلية عنها. ثلاثة من كبار الممثّلين يتصدّرون الأدوار الرئيسية: ميشال بيكولي، بريجيت باردو، وفريتز لانغ. أضف إلى ذلك، موسيقى جورج دولورو، التي ترافق لقطات المداعبات والكلام الشاعري بين بيكولي وباردو، حين يقول لها: "أحبّك بطريقة تراجيدية". بالإضافة إلى النزلات والطلعات على جسدها، بكاميرا راوول كوتار، التي أدخلت باردو معبد الصورة. تلاه تعاون ثانٍ مع غودار في "مذكّر مؤنّث"، وإن في دور ثانوي، لكنه دور أكّد حضورها في سينما المؤلف إلى جانب الأفلام الجماهيرية. هناك عملان آخران بارزان في مسيرتها: "في حال حدوث مأساة" و"الحقيقة"، من توقيع اسمين كبيرين من الجيل السابق، كلود أوتان لارا وهنري جورج كلوزو. في فيلم "في حال حدوث مأساة"، المقتبس من رواية لجورج سيمنون، تتألّق باردو أمام جان غابان، في دور محامٍ يدافع عنها في قضية سرقة ودعارة قبل أن يقع في غرامها. ولا يمكن نسيان المشهد الأيقوني، حيث تضع باردو مؤخّرتها على حافة الطاولة فيما هو واقف ويداه في جيبه. أما في "الحقيقة"، فتقودها قضية أخرى إلى المحاكم، لتكشف سريعاً عن نقمة المجتمع الذي يدّعي الفضيلة، فيما الواقع مليء بالأحكام المسبقة، علاقات السيطرة، وازدواجية المعايير. إلى جانب هذه الأعمال الجادة، ضمّت مسيرتها أفلاماً خفيفة متقنة الصنع، مثل "الدبّ والدمية" لميشال دوفيل، مع جان بيار كاسيل الذي يلعب دور الرجل الذي لا يقاوم سحرها. ولا ننسى تعاونها مع لوي مال في فيلمه اللطيف "فيفا ماريا!"، محاكاة نسائية لأفلام الثورة، تؤكّد تنوعها وقدرتها على الانتقال بين الجانرات.

 

أثناء تصوير
أثناء تصوير

 

في عام 1973، اعتزلت بريجيت باردو، بعد نحو أربعين فيلماً، ليست كلها تحفاً سينمائية. الوقوف تحت الأضواء بشكل متواصل، لم يتوافق مع طبيعتها وما كانت تطمح إليه على المستوى الشخصي، بل يُقال إنها باتت تشعر أحياناً بالسخرية من نفسها. تلك المرأة التي لُقِّبت بالأجمل في العالم، لم تكن تحلم بسوى الجلوس في مقهى هادئ، بعيداً من عيون الآخرين. كانت آنذاك في أواخر الثلاثينات، وفي ذروة مجدها. بعد سبعة عشر عاماً من انطلاقتها المدوية، كتبت بيدها جنريك النهاية، لتتفرغ بعدها للدفاع عن حقوق الحيوانات ومناصرة قضاياها، متسائلةً مراراً عن طبيعة الحرية التي عاشتها، إذ صرّحت ذات مرة: "حمّلوني لواء تحرير المرأة، ولكن أنا نفسي لا أعرف إن كنتُ حرة، وإذا كانت هذه هي الحرية أصلاً".

حتى النقّاد احتاجوا لعقود طويلة كي يتخلّصوا من عقدة تقييمها ووضعوها تدريجاً في مكانها الصحيح. فهي صنعت حضورها بتفاصيل كثيرة، مؤكدةً ان الممثّل لا يحيا فقط بالأداء. آخر أفلامها "لو كان دون جوان امرأة"، إلا أن الانفصال الكبير مع السينما حصل فعلياً أثناء تصوير "حكاية كولينو تروس شوميز المبهجة" لنينا كومبانيز. أثناء التصوير، حسمت قرارها بالابتعاد عن الشاشة نهائياً. كتبت لاحقاً في مذكّراتها أنها لم تحمل السينما في قلبها يوماً، وأنها شعرت فجأةً بعدم جدوى كلّ شيء، كأنها سجينة صورة، حاصرها السينمائيون فيها أولاً، والإعلام ثانياً، والجمهور ثالثاً. ومن دون ان يدرك مصيرها، كان لوي مال قد أسند إليها قبل عشر سنوات من اعتزالها، دور نجمة في "حياة خاصة"، كاشفاً الوجه الآخر للشهرة. رغم المحاولات، لم تتراجع باردو عن قرارها، وظلّت لسنوات تقول إنها سعيدة بخيارها، ولولاه لانتهت كماريلين مونرو. فضّلت الطمأنينة على أي اعتبار، حاملةً ألماً قصيراً الآن لتجنّب ألم أكبر لاحقاً.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/27/2025 1:57:00 PM
قوة للجيش الإسرائيلي، مؤلفة من ست آليات عسكرية، دخلت من اتجاه التلول الحمر، مروراً بالمنطقة الواقعة بين بلدتي بيت جن وحضر، وصولاً إلى قرية طرنجة.
المشرق-العربي 12/27/2025 3:25:00 PM
وقعت وزارة الدفاع العراقية في 2024 عقداً مع شركة إيرباص لشراء مروحيات H225M كاراكال، في إطار خطة لتحديث أسطول طيران الجيش وتنويع مصادر التسليح بين الشرق والغرب.​
المشرق-العربي 12/27/2025 4:36:00 PM
صودرت المضبوطات وفق الأصول القانونية المعتمدة، فيما أحيل المقبوض عليه إلى القضاء المختص لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحقه.
المشرق-العربي 12/28/2025 9:46:00 AM
يواجه الفلسطينيون في غزة مأساة إنسانية