لبنان وأزمة اللّغتين: نحو سياسة لغويّة عصريّة وازدواجيّةِ لسانٍ تكامليّة
سعد بهجت أبو شقرا
لطالما حُبِسَت قضايا اللّغة وتداعياتها في لبنان في عنق زجاجة السّجالات الأيديولوجيّة؛ فبين من يقدّس اللّبنانيّة ويعتبر الفصحى لغةً باتت تعجز عن الوفاء بمتطلّبات العصر من جهة، وبين من يقدّس الفصحى ويصرّ على أنّ اللّبنانيّة دون اللّغات من جهة ثانية، ضاعت ملامح الهويّة اللّسانيّة اللّبنانيّة ودفع اللّبنانيون ثمن تداعيات ذلك.
إنّ الهويّة اللّبنانية اللّغويّة تستمرّ بالتخبّط بسبب "تشوّش أنطولوجي" (Ontological Confusion) في تعريف الذّات اللّغويّة -أي عدم فهم اللّبناني ما هي اللّغة التي تعبّر عنه وتكوّنه ذهنيًاً وثقافيًاً- نتج من مقاربات الوضع اللغوي أيديولوجياً باعتماد أيديولوجيّتَين متناحرتَين: أيديولوجيّة النّأي عن المحيط العربي، في مقابل أيديولوجيّة تناسي الخصوصيّة اللّبنانيّة.
ومنذ مجلّة شعر (يوسف الخال -1957)، الّتي وفّرت الغطاء الفكري والمناخ الحرّ لمناقشة "الكيانيّة اللبنانيّة" من زاوية لسانيّة فحوّلت بيروت إلى مركز "تمرّد لغوي"، وصولاً إلى مشاريع "اللّبنَنَة" الصّرفة لاحقاً، بقيت محاولات حُماة الخصوصيّة تدور في فلك التّركيز على الإبداع الأدبيّ باللبنانيّة وتَلْتِين حرفها الأبجديّ، من دون النّظر في المجالات الأساسيّة الأخرى للأزمة.
وفي المقابل استمرّ الفريق الآخر بتجميد الفصحى بالإصرار على التمسّك بحركات إعراب معقّدة زالت الحاجة لها، وتمجيدها كحافظة لـثروة مُتَخيَّلة من اثني عشر مليونَ مفردةٍ بات غالبها يشكّل عبئاً معرفيًاً لا ثراء وظيفيًّا، كالسِّناف (حبل الخيمة) والشّمردل (الجمل الفتيّ) والحجنجل (الغدير الصّغير).
إلّا أنّ مراجعة موضوعيّة علميّة للوضع اللغوي تبيِّن أنّ واقع أزمة اللّغة في لبنان ليس بسبب عجزٍ دائمٍ في الفصحى ولا في اللّبنانيّة، ولا هو بسبب أنّ إحداهما باتت صدئةً أو أنّ الثانية هي انحلال لغويّ. بل أنّ الأزمة في الحقيقة تكمن في حالة "ازدواجيّة لغويّة" (Diglossia) باتت وضعاً معوِّقاً. فإبعاد "اللّغة الأمّ"، المحكيّة، أي لغة الحياة اليومية التي يكتسبها الدّماغ تلقائيّاً خلال تفاعله مع بيئته وتصبح أداة التفكير والوجدان، عن كلّ مجالات الاستعمال الجدّي، خلق انفصالاً بين اللّسان والوجدان من جهة وبين العقل والواقع من جهة أخرى، نتجت منه تداعيات على صعيدين: صعيد تكامل الشخصيّة للفرد -وهو التّوازن والتّناسق بين العقل والعاطفة والسلوك المجتمعي الإيجابي السليم- وصعيد الصحّة النفسيّة المجتمعيّة، حالة تتّصف بها تجمّعاته ومؤسّساته بالقدرة على التّعاون المستمرّ، والتّفاعل الإيجابي، والمحافظة على تماسك المجتمع.
ثمّ إنّ التّطرّف بالاتّجاه المعاكس، أي محاربة الفصحى، يعزل اللّبنانيّين عن أجزاء كبيرة من تراثهم وعن البيئة الحيويّة التي ينتعش في ظلّها اقتصادهم الوطني.
ولمواجهة الأزمة، تبرز الحاجة الملحّة الى معالجة أوضاع كلتا اللّغتين عبر مقاربات علوميّة لا أيديولوجيّة.
تعثّر روّاد اللّبنانيّة
بدأ مشروع تحديث اللّغة مع يوسف الخال عبر دعوته الى "خرق جدار اللّغة" معجمياً؛ إذ كان يحلم بـ"لغة بيضاء": أي لغة محايدة... تدمج حيويّة المحكيّة (مع تفادي سيولتها) برصانة الفصحى (مع تفادي قديم مفرداتها وتعابيرها)، لتصبح أداةً وظيفيّة تعكس الفكرة بوضوح تامّ. لكنّ الخال ظلّ سجين "التّحديث المعجمي للفصحى".
وفي المقابل، كانت مساهمة أُنسي الحاجّ مركّزة على "التّحديث التّركيبي للفصحى"، فلوّن الفصحى بألوان المحكيّة عبر جمل قصيرة، متقطّعة الإيقاع، تميل إلى الشفويّة، وتفادى أدوات الربط والبلاغة والبيان. فلم يتناول أيّ منهما اللّبنانية كلغة وبقيت الفصحى تحمل ثقل "الوسم الإعرابي" (Case Marking) و"الحمولة النّحوية" (Grammatical Load).
وفي مقلبٍ آخر، وقع سعيد عقل في فخّ التشكيليّة أي في "تغليب الشّكل البصريّ للّبنانيّة" على الجوهر اللّغويّ؛ إذ اعتبر أنّ إضافة تصاميم إبداعيّة على شكل الحرف اللّاتيني هو المدخل للحداثة، غافلاً عن أنّ اللّغة تُبنى من منطق داخليّ (صرف ونحو ودلالة وسياق) لا من غلافها البصريّ (شكل الحرف). كما افتقرت حروفه، رغم أناقتها، إلى المعياريّة الوظيفيّة، فتحوّلت إلى أيقونة عجزت عن ملامسة ذاكرة النّاس. أمّا موريس عوّاد، فقد قاد "راديكاليّة صوتيّة لكتابة اللبنانية" عبر كتابة الأناجيل والشّعر باللّبنانيّة، لكنّه كتب مُغفِلاً أهميّة المُقاربة المنهجيّة. فلم يتناول أيّ منهما قضيّة الفصحى، أمّا اللّبنانيّة فبقيت عندهما حالة تفتقر إلى التّقنين المنهجيّ الّذي ينقلها إلى رحاب العلوم اللّغوية فيؤهّلها لتكون لغة مشارِكة فاعلة.
إذًا لم يقارب أي من الرّواد الأربعة الوضع اللّغوي بمجمله، بما يتضمّن لغتيه، بصرف ونحو ودلالة وكتابة كل منهما، ولا بما يتضمن تداعيات الوضع اللّغوي النّفسية والاجتماعية، لم يطرح أيّ من الأربعة مشروعاً منهجيّاً متكاملاً لمواجهة الأزمة وتجاوز تداعياتها الخطيرة.
اللّسانيّات العصبيّة
إنّ تجاوز هذا التخبّط يستوجب الاستناد إلى "منهجيّةٍ مَنطقيّةٍ ولسانيّةٍ-عصبيّةٍ" (Axiomatic and Neuro-Linguistic Methodology-). ففي ضوء العلم الحديث، لم تعد اللّغة تجريداً هائماً في اللّامكان، بل باتت تُفهم ماهيتها بصفتها "بنيةً عصبيّةً بيولوجيّةً" (Neuro-Biological Structure)، تخضع للمراقبة المختبريّة وتتجلّى كألفاظٍ وأشكالٍ بحسب أنماطٍ متناسقة تخدم المجتمعات وتتطوّر معها. فاليوم، يقوم علماء اللّسانيّات العصبيّة بمراقبة تكنولوجية للعمليّات الكامنة داخل الشّبكات العصبيّة في الدّماغ، ممّا يُظهِر أنّ لغة الإنسان –وبخاصّة تلك التي يستعملها للتّفكير والتّواصل اليومي– هي جزءٌ أصيلٌ من كيانه البيولوجيّ ومن ذاته.
التّقنين والتّحديث
تأتي هذه الرّؤيةُ، الّتي تُعدّ الأولى في مقاربة الفصحى بروحٍ عصريّة وتحليل بنية اللّبنانيّة، وفق منهجيّة المنطق والعلم، لتشكّل استجابةً حتميّةً لمتطلّبات الاقتصاد المعرفي والاستقرار المجتمعي. فالمشروع يرمي إلى أمرين: أوّلهما التوصل الى "لبنانيّة معياريّة" تمتلك صرفها ونحوها ودلالاتها وتكون لغةً متكافئةً مع اللّغات المعترف بها عالمياً، وثانيهما معالجة أمر الفصحى عبر تحديثها بمواءمةٍ منهجيّةٍ ديناميكيّةٍ ومستمرّةٍ مع لغات التّفكير، تُجرَى بصفةٍ دوريّةٍ لتبنّي المستحدَثِ الضّروريّ وحذف ما صار عبئاً معرفياً لا وظيفة له، أي على غرار سياسات لغويّة تعتمدها أمم كبرى بنت اقتصاداتها المعرفيّة بلغةٍ يُفكّر بها المواطن تلقائيّاً.
وبالتّالي فالمشروع هو مشروع إعداد الأرضيّة اللّغويّة لبناء شراكةٍ واعيةٍ وحيويّةٍ بين الفصحى المحدَّثَة التي تصبح جسراً صلباً يضمن اتصالنا بالتّراث وقربنا من محيطنا، وبين اللّبنانيّة المقنّنة التي تصبح أداتنا المتينة لوضوح الهويّة وتوحيد الولاء. إنّ استقرار الأوطان يعوزه التصالح اللّغويّ؛ فبلبنانيّة مقنّنة وفصحى عصريّة معتمدتين رسميّاً، مرآةٌ سنرى فيها صورتنا الحقيقيّة: شعب يحترم لغتيه فيجد فيهما استقراره ونهضته.
*تربوي وباحث لغوي
نبض