ترميم علني في المتحف المصري الكبير... ما هو المركب الشمسي الثاني لخوفو؟
بدأ المتحف المصري الكبير، الثلاثاء، إعادة تركيب المركب الشمسي الثاني للملك خوفو، مباشرة أمام الزوّار، وهو مركب مصنوع من خشب الأرز يعود عمره إلى نحو 4 آلاف و600 عام، كان مدفوناً إلى جوار الهرم الأكبر في الجيزة.
قد تبدو فكرة تنفيذ العمل علناً استعراضاً تنظيمياً، غير أنّ العنوان الحقيقي هو القطعة نفسها: قلّةٌ نادرةٌ من اللقى من الألفية الثالثة قبل الميلاد وصلت إلينا بحجم كامل، وأندر منها ما نجا بوصفه سفينة متكاملة ومتقدمة تقنياً.
مركب ملكي
ينتمي مركبا خوفو إلى تقليد مصري قديم أوسع، يقوم على إيداع المراكب أو أجزائها ضمن تجهيزات الدفن الملكي. ويعكس وصف "المركب الشمسي" قراءة شائعة ترى فيه مركباً طقسياً يرافق الملك مع إله الشمس رع في رحلته إلى العالم الآخر. غير أنّ متخصّصين يشيرون أيضاً إلى دلائل عملية توحي باستخدام فعلي، ما يدعم فرضية ثانية مفادها أنّ هذا المركب ربما استُخدم في نقلٍ احتفالي مرتبط بمراسم الجنازة الملكية قبل دفنه.

من منظور هندسة بناء السفن، يُعدّ مركبا خوفو ذات قيمة استثنائية لا لعمرها وحجمها (نحو 43 متراً طولاً) فحسب، إنّما لما تكشفه عن تقنيات الدولة القديمة. تؤكّد توثيقات صادرة عن معهد الآثار البحرية أنّ أسلوب البناء يبدو مُعدّاً عمداً للتفكيك ثم إعادة التركيب، وهو ما ينسجم مع نقل المراكب الكبيرة مجزّأة عبر الصحراء أو حول عوائق نهر النيل. وقد اعتمدت محاذاة الألواح على تعشيق "اللسان والوتد" (mortise-and-tenon) والوصلات الطولية المتداخلة، بينما تمركزت المتانة الهيكلية الأساسية في بدن السفينة وفق تقليد "الهيكل أولاً".
على صعيد المواد، تُظهر دراسات علمية لتحديد أنواع الأخشاب في المركب الثاني - شارك في إعدادها محافظون وباحثون من مركز ترميم المتحف المصري الكبير وشركاء يابانيون - استخداماً واسعاً لأخشاب مستوردة (ولا سيما أرز لبنان والعرعر)، إلى جانب أنواع محلية مثل السدر (Ziziphus spina-christi) وأشجار الأكاسيا (Vachellia وأنواع قريبة). وهذه ليست تفصيلاً ثانوياً؛ فقرارات الترميم (اللاصقات، المواد المُقوِّية، مستويات الرطوبة) تتوقف على خصائص كلّ نوع، كما أن مزيج الأخشاب يرسم خريطة للتجارة والتوريد وخيارات الورش في عهد الأسرة الرابعة.
الفريق الياباني والمركب الثاني
في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، روى العالِم الياباني ساكوجي يوشيمورا لـ"النهار" أنّ "الفريق الياباني هو من أكّد وجود المركب الثاني باستخدام الرادار المخترق للأرض"، شارحاً: "قمنا باستخراج القطع الخشبية، وأجرينا عليها أعمال الحفظ والترميم، وها نحن اليوم نصل أخيراً إلى مرحلة إعادة تجميع المركب".

جسّد هذا المشروع، وفق يوشيمورا "روح الصداقة والعلاقة التعاونية بين مصر واليابان". واليوم، ينظر إلى إنشاء قاعة عرضٍ خاصة بالمركبين داخل المتحف المصري الكبير على أنّه "يُعبّر بوضوح عن مدى أهمية هذا التراث بالنسبة للشعب المصري، ويضيف: "أشعر بامتنانٍ بالغ لأنني كنت جزءاً فاعلاً في هذا العمل المميّز".
نُقلت الثلاثاء أجزاء من المركب الملك إلى موقعها الجديد في بهو متحف مراكب الملك خوفو الملحق بالمتحف الكبير، حيث سيتمكّن الزوار من متابعة أعمال ترميمه على مدى السنوات الأربع المقبلة. بمساعدة رافعة آثار صغيرة، رفع المرمّمون لوحاً خشبياً بدا عليه التآكل، ليضعوا بذلك أول قطعة من أصل ألف و650 لوحاً خشبياً تُشكّل مجتمعة مركب الملك خوفو.
الاكتشاف: حفرتان بجوار الهرم الأكبر
تعود القصة إلى عام 1954، حين حدّد علماء الآثار حفرتين للمراكب على الجانب الجنوبي من الهرم الأكبر لخوفو، كانتا مختومتين بكتل ضخمة من الحجر الجيري. وأسفر الاكتشاف عن ما يُعرف اليوم بـ"المركب الأول" و"المركب الثاني"، نسبة إلى الحفرتين الشرقية والغربية.

تحوّلت أعمال استخراج المركب الأول وإعادة تركيبه إلى محطة مفصلية في تاريخ الترميم خلال منتصف القرن العشرين، وعُرض لاحقاً لعقود قرب الهرم قبل نقله إلى المتحف المصري الكبير. أمّا المركب الثاني، فقد سلك مساراً أبطأ وأكثر تدرّجاً من الناحية العلمية، نظراً إلى هشاشة أخشابه الشديدة. كانت الألواح الخشبية متحلّلة حرارياً وفي حالة شديدة الهشاشة، ما دفع بعثات أثرية عدّة إلى الإحجام عن الخوض في هذا المشروع.
لماذا استغرق ترميم المركب الثاني عقوداً؟
كان العامل التقني الحاسم هو البيئة الدقيقة داخل الحفرة المختومة. فقد سجّل تقرير متخصص في Journal of Ancient Egyptian Interconnections، يُلخّص المشروع المصري الياباني، نسبة رطوبة تقارب 85 في المئة (±5 في المئة) داخل الحفرة، محذّراً من أنّ التجفيف السريع سيُتلف الخشب، ما استدعى تثبيتاً بيئياً دقيقاً (مكيّفات، أجهزة ترطيب) وبنية تحتية مرحلية في الموقع قبل فتح الحفرة ورفع القطع.
ويتتبّع التقرير ذاته مساراً طويلاً من الفحوصات والمعالجات: ملاحظات وأخذ عينات أولية (بما في ذلك ثقب وصول صغير) منذ أواخر الثمانينيات، تحاليل كشفت فقداناً كبيراً في السليلوز، وأدلة على أنّ الحفرة لم تكن محكمة الإغلاق تماماً، ما سمح بتلوّث خارجي فاقم مخاطر التحلّل. هذا المزيج دفع الخبراء إلى تبنّي استراتيجية إزالةٍ مُتحكَّم بها مع الترميم، بدلاً من الإبقاء غير المحدود في الموقع.

في مرحلة لاحقة، عرضت وكالة التعاون الدولي اليابانية (JICA) دعمها للمهمة المصرية–اليابانية، موضحة أن أعمال التنقيب أخرجت نحو ألف و700 عنصر خشبي من 13 طبقة داخل الحفرة، مع استكمال التسجيل والتوثيق، ونقل أجزاء كبيرة إلى المتحف المصري الكبير للترميم النهائي ثم التجميع.
2025: عرضٌ معرفي أمام الجمهور
على خلفية هذا الجدول الزمني الطويل، يبرز قرار الترميم الأخير لافتاً للنظر؛ إذ بات المتحف المصري الكبير يركّب المركب الثاني علناً، قطعةً قطعة، في قاعة مجاورة لـ"توأمه" المُرمَّم. وتشير التقارير التي واكبت إطلاق المرحلة المفتوحة إلى أن المركب يتكوّن من نحو ألف و650 قطعة خشبية، وأنّ برنامج التجميع مرشّح لأن يمتدّ سنوات عدّة، وهي مقاربة تُحوّل الترميم إلى معرض تفسيري حيّ، يتيح للزوّار مشاهدة التقاء منطق صنّاع السفن القدماء مع علوم المتاحف الحديثة في الزمن الحقيقي.
بالنسبة إلى مصر، ينطوي الرهان على بُعدين. علمياً، يبرز التجميع العلني صرامة المنهج وشفافيته في تثبيت وتوثيق وإعادة بناء واحدة من أهم البقايا الخشبية في العالم. وثقافياً، يعيد تأطير حكاية الجيزة المألوفة - خوفو والهرم الأكبر - من زاوية مختلفة: هذه المرّة ليست عبر ضخامة الحجر، إنّما عبر دقّة النجارة، وسلاسل توريد الأخشاب عبر المسافات، وطقس يرى أنّ رحلة الملك تتطلّب سفينةً مُتقنة الصنع تنقله في رحلته إلى العالم الآخر.
نبض