الشحرورة صباح وقفتْ في الباب غنّتْ لي وأحببتُها وأحبّتني

ثقافة 26-12-2025 | 11:25

الشحرورة صباح وقفتْ في الباب غنّتْ لي وأحببتُها وأحبّتني

في 10 تشرين الثاني 1927 ولدتْ صباح، وفي 26 تشرين الثاني 2014 غادرتْ هذه الدنيا. صوتُها هنا، وفي الصبا، وعلى تلّة، ودَينُها لا يوفى. 
الشحرورة صباح وقفتْ في الباب غنّتْ لي وأحببتُها وأحبّتني
الشحرورة، بريشة الفنّان منصور الهبر.
Smaller Bigger

لستُ أدري متى طرقت بابي الشحرورة صباح؛ ربّما اليوم، ربّما أمس، ربّما أوّل من أمس، وأيضًا مذ كنتُ فتًى، وقبل زمنٍ سحيق، ودائمًا. وقفتْ بقوامها الميّاس على العتبة، يدُها على خصرها، وابتسمتْ، وضحكتْ، وقبّلتْ وجنتي، ولم تعاتبْ. وعندما دخلتْ، جلستْ في صحن الدار، وكتفتْ ساقًا على ساق، وطلبتْ قهوةً، وغنّتْ من أجلي. وأحببتُها. وأحبّتني.

 

أجاءت لتذكّرني بأنّ دَينَها في عنقي، ولا يوفى؟ 

 

بعدما غادرتْ، كتبتُ لها ما يأتي، على سبيل الاعتذار والعرفان:

 

أجملُ صوتكِ أنّه امرأةٌ في المراهقة، ويانعٌ في الصيف، في الربيع، في الشتاء، وفي الخريف، وناضجٌ، ومزدهرٌ، وعنبٌ كلّه، ومشمشٌ، ودواءٌ، وعندليبٌ، ونهرٌ يتنهّد على صفصافه، ويتلوّى، وينحني، ويتباهى، وجبينُهُ موّالٌ في الهواء الطلق، ويصفّق، ويغتسل، ويتعرّى، ويتشمّس، وعيبٌ، والله، أنّي كلّ هذا العمر الذي مضى، لم أكتبكِ يومًا، يا صباح، يا شحرورة، ولم أكتب عنكِ. 

 

كان ينبغي لي منذ خمسين عامًا، أنْ أكتب أحبُّكِ يا شحرورة، يا صباح، وأحبّ صوتكِ، وأشتهيه، وأرغبه، ويجعلني في الارتعاش، في الرهز والارتهاز، وهي حالٌ لا تشبه أيّ حالٍ موازية، ولا أيّ صوتٍ، أو وجهٍ، ولا أيّ امرأةٍ أخرى. فلماذا لم أفعل؟ لستُ أدري.

 

صدِّقيني، فأنا أعترف. ومَن يعترف، لا يعود يهمّه أنْ يعرف الناس أنّه أخطأ، وارتكب، وأغفل، وتغاضى، وانجرف، أو قصّر في شأنٍ لا يجوز التقصير فيه. 
وصوتُكِ يا شحرورة، يا صباح، فضلُهُ على قلبي، على ذوقي ومزاجي، ونعمتُهُ عليَّ هي نعمةُ العيش والفرح والحلاوة واللطف والكياسة والغنج والدلال والرقص والهتاف والقطاف. وما أجملها نعمةً، وما أطيبها أنّها نعمتكِ عليَّ، ولا تنتهي.

 

ما الذي منعني طوال هذا العمر المديد، من أنْ أكتب لكِ ما أنا الآن أعترفه، وأعترف به، بعد مرور الوقت؟ أهو العمى؟ لا. ليس العمى. لأنّي كنتُ عارفًا صوتَكِ، مدركًا ما هو، والفتنة، وجنون شهوته، والغواية التي فيه، والعسل. 
ما أطيب عسلكِ، يا شحرورة، يا صباح!

 

لا يشبه عسلًا استطعمتُهُ يومًا. ولا يذكّر بعسل. ولا يشبه صوتكِ أحدًا، ولا صوت يشبهه.

 

وصوتُكِ يرقص كما لا ترقص حنجرةٌ، ولا مزمارٌ، ولا نسمةٌ، ولا هنيهةٌ، ولا عصفورٌ، ولا قمرٌ، ولا شمسٌ، ولا مطرٌ، ولا تنّورةٌ، ولا نبعةٌ، ولا دوارٌ، ولا وعرٌ، ولا موجةُ بحر، ولا عاريةٌ، ولا هدهدةُ مهدٍ أو غرامٍ أو سرير.

 

سكّرٌ صوتُكِ برمّته، ونهدٌ. ما أجمل أنّ صوتكِ نهدٌ، وهو حياةٌ، ما أجملها الحياة. 

 

وأحبّ صوتكِ لأنّه امرأة، ولا يضجر من كونه امرأةً، ولا من كونه براءةً وشبقًا وجنسًا، وممشوقًا، ولا يبتذل، ولا يترهّل، وقد قلتُ إنّه نهدٌ، وفتيٌّ، ولائقٌ، وناهدٌ، وجوريٌّ، وماجنٌ، ومستيقظٌ، وعاصفٌ، وهنيءٌ، وسهرانٌ، وسكرانٌ، ودائمًا في النزق، في الطيش، في الصدق، في العاطفة، كأنفاس العشٌاق، بعشريناته وثمانيناته، وفي الأقلّ والأكثر، وغيمٌ وأنسٌ وأنوثة، ولا يستحي، ويستحي، ويبادر، ويقتحم، ولا يعود القهقرى، ويعرف كيف يشهق، ويُستحلى أنْ يتأوّه، وشبقُهُ لا يرتوي، وبارعٌ متى تزفّ نشوته، ومتى يكون الجَرَس هتافًا حنونًا وجارحًا، ومتى يتغطّى بشرشفه، ومتى يرمي الشرشف، ويهوشل كشَعرٍ في أتونِ بركانٍ وعاصفة، ولا يزعل، ولا يهدم الجسور، وهو بلديٌّ، وجبليٌّ، وريفيٌّ، ومدنيٌّ، ومدينيٌّ، ونكهتُهُ هواءٌ على قمّة جبل، وثلجُهُ طيّبٌ، وفحواه ما ألذّ الفحوى، ولا ثمن له، ولا يقايض، ولا يساوم، ومجّانًا أخذتم مجّانًا أعطوا، وهو ما هو، وكريمٌ، وكرْمٌ على دربٍ، ويحبّ المقامرة، والمغامرة، وكلّما خسر ربح، ويطرد الحزن، ويرميه خلف الباب، من الشبّاك، ويدجّن اليأس، ولا يسمح له بالجلوس إلى مائدة، ويعشق، ويعيد الكرّة، ويصهل، ومرآتُهُ مرايا، وأفراسٌ وخيولٌ تجمح وتتجامع، ويشعل الدفء بعريه، بصفائه، وليس لئيمًا، ولا جاحدًا، ويهيم، فهو على صهوة، ويتغاوى، ويغفر، وسموحٌ، ويظلّ يحبّ. ويُغوي.

 

في 10 تشرين الثاني 1927 ولدتْ صباح، وفي 26 تشرين الثاني 2014 غادرتْ هذه الدنيا. صوتُها هنا، وفي الصبا، وعلى تلّة، ودَينُها لا يوفى. 

 
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/24/2025 10:00:00 AM
أراد يسوع بيت لحم بدون حواجز ولا قيود. أرادها مدينة تصدّر السلام من هذه البقعة الجغرافية إلى كل العالم.
المشرق-العربي 12/24/2025 12:33:00 PM
القوة مؤلفة من سيارتين إحداهما من نوع هايلكس والأخرى هامر عسكرية
المشرق-العربي 12/25/2025 12:34:00 PM
الداخلية السورية: العملية تأتي تأكيداً على فاعلية التنسيق المشترك بين الجهات الأمنية الوطنية والشركاء الدوليين
المشرق-العربي 12/25/2025 1:41:00 PM
العلاقات السورية - الإسرائيلية معقدة، ولم يتمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاقية أمنية رغم المساعي الديبلوماسية.