"كتابُ الغرفة" لعقل العويط: صهيلُ الألم والحياة والحبّ المستحيل
غسان الحلَبي
كتبَ عقل العويط "كتابَ الغرفة" (دار نوفل / هاشيت أنطوان) في غرفةٍ أُخرى هي "غرفة الكِتابة" السَّاكِنة غرفه كمالكٍ شرعيّ لكلِّ أشيائه الجميلة المحيطة به كأنَّها حقل الورود الفسيح بالأمل فوق ركام العالَم الَّذي اقتحم كلّ الغرف المُمكِنة بيأسٍ كنصلٍ في الرَّقَبة. الشّاعرُ الصَّاعِدُ من مَصهَر الخراب الكيانيّ الَّذي صيَّرهُ "كائن الشّكّ والعدم بامتِياز"، كان قد اكتشفَ لُقْيتَه وتشبَّثَ بها، لا بيديْه، بل بِما تَبقّى من جَمَرات الكِيان فبات له كيان من جَمر ملتهب على الدَّوام من لُقْيَته البديعة التي هي الشِّعر، وكان قدرُه أن لا يقطفه إلا لهبًا من نارِ ما أمكنه من حياة.
بعض أهمّ كتُب عقل الشّعريَّة كُتِبت فوق فالق أنطولوجيّ تفاعلَ بخطورةٍ وجوديّة حين اصطدم الاخلاص النَّقيّ الخالِص لديه بواقعيَّةٍ فجَّة قاسية لا ترحم ولا تُقِيم في مستواها الآنيّ الحاصِل وزنًا لأيّ إخلاص. حدث هذا مثنى وثُلاث ورُباع، "فمَن مثله".
"كتابُ الغرفة" يضعهُ في الملاذ من كلِّ الفوالق. و"غرفته" هي حصنه وقلعته وزاويته وحبيبته التي بادلته إخلاصًا بإخلاص. وأيّ غرفة!. هي واحدة وهي غرف لا تُحصى لأنَّ لأشيائها وجودا أقلّ درجتِه المرئيّ منها، أمّا معانيها ودلالاتها وذاكراتها في الواقع وفي الجَنان وفي الشِّعر الصَّديق الأشد إخلاصًا من كائناته المشتعلة فيه هي كلّها بيت القصيد وحُجْر الألفة الذي افترسته الوحشةُ هنا وهناك إلَّا حُجْرها الخاصّ الفريد الَّذي احتضن الشّاعر وشعره وصلبان دَربه بِلا لِم ولا كيف ولا متى ولا أين.
كانت فكرة انتقال "الغرفة" إلى مكانٍ آخر ذريعةً لاستبطان عوالمها في روحه دون "أي إحساس بالرّثاء"، لأنّ "هذا المكان بالذّات"، سينتقل معه انتقالًا "يوازي هواء الشّعر الّذي يغمر الكون"، ويجعله "في خضمّه". وجماليّات المكان هنا غزيرة كشتاءٍ شعريّ في روحٍ شاعرة في مكانٍ حضورُ اللامكان فيه أشدّ وأعمق حضورًا في مستوياتٍ عدَّة من المكان الظاهر للعِيان، حيث تتبدَّى "الأشياءُ" العزيزة على القلب والعقل، معًا سَواءً بِسَواء، فائضةً بشُحْناتٍ يألفُها السَّردُ الشِّعريُّ الجائع دونما حاجةٍ لإضافةِ أيّ توصيفٍ آخر.
كثيرًا ما ذهب العديدُ من صفحات دواوين عقل مذهب هذا السَّرد. غير أنَّه في "كتاب الغرفة" يمضي في سياقٍ تهدأُ فيه - إلى حدٍّ ملحوظ – النوبات المشحونة بغضبٍ مكظوم بالألم والمشاعر العارمة بالفقْدِ والانكسار والبغتة والاستِحالة الوجوديَّة وضياع الحميم من ذات اليد والقلب في وقع أيَّامٍ عائدة لتأكيد ما استشعره الشَّاعر مرَّاتٍ عديدة "دمارًا عدَميًّا" يزرع الألم في قلبه "إلى الأبد". "السَّردٌ الشّعريّ" في "كتاب الغرفة" محفوفٌ بالأشياء والحواسّ والوقائع والذّكريات، والكثير ممّا قِيل بطريقةٍ لا تُغني عن قوله بطريقةٍ أُخرى توجبها روحُ السَّرد والنثر الَّذي لا بدَّ منه في مثل هذه الحالات. غير أنَّ النَّثرَ عند عقل الشَّاعر يبقى في قبضَة الشِّعر وليس بإمكانه المضيّ بعيدًا ولو بالقليل. يقول أشياءه ب"الطُّوبى" كأنَّه في قدّاس أمام مذبح الشِّعر، وهذا مفهومٌ في حالةِ عقل العويط، لأنَّ الشِّعريّة واللّغةَ والحقيقة المستحيلة في حياته كانت له على الدوام خلاصًا مصلوبًا يمدُّه بروح "طفولةٍ عُظمى" لم تغادر قلبه المكلوم بلا انقطاع.

يتيحُ الظَّرفُ للشّاعر، بل يدفعه دفعًا، إلى سرد "احتفاليّة" انتقاله المكانيّ سردًا ظاهراتيًّا (مقاربة فينومينولوجية) نواتُه مفاعِل التجربة الدّاخليّة ومصهرها "العودة إلى الأشياء ذاتها" بحيث يكونُ الواقعُ المادّي ذريعة جزئيَّة للدخول إلى حقول تجذُّر وعيها الذاتيّ/الشخصيّ في أعماق الذَّات، ولِم لا، إلى مجاهل مؤثراتها في مخزون آبارها المُعتِمة. فالأفكار عند "ساكن الغرفة وجليسها" "وليدة الاختبار لا وليدة التّجريد الذّهنيّ"، وليس من "فارقٍ زمنيّ" عنده "بين الإدراك العقليّ والإدراك المحسُوس؛ فهما يتآخيان، ويتزامنان، ويتساقيان، ويتلاقحان، حتّى لَيصعب الفصل بينهما، أو الاجتراء عليهما بالشّروخ الافتراضيّة المُعقلَنة".
وكلّ "أشياءِ" الغرفَةِ مغروسةٌ كالحُمَم في بركان، وبالسويَّة ذاتها، كالعطر في أزهار حقل الرَّبيع في روح صاحبها. هي فيه وبِه مندمجة "اندماجًا يُحِسّ معه أنّهما كلٌّ واحدٌ". اندماجٌ يتبدَّى في لغة الكتاب ونبض تعبيره وعِلَّة وجوده، بل ويتواطأ بقوَّة الحياة فيه على أن ينتزع، في خضمّ زَخَم السَّرد الشّعريّ المأخُوذ كلّيًّا بهذا "الكُلّ"، قِوامَ سيرةٍ لطالما تناثرت حُممها بين دواوين "أليف الغرفة" ولُجج لغته السَّاخنة كدمٍ في سويداء قلبٍ حَيّ.
يحتفي هذا السَّردُ احتفاءً عادلًا بفضائل "أشياء" الغرفة وأطياف أشخاصها، وبحياةِ كلّ واحدٍ منها التي هي بعينِها حياة الشّاعر. وللرّوح الشعريّة أشياؤها الشريكة في السَّكن. "غرفتي هذا البحر... الَّذي أكاد أقول إنّه إحدى مرايا صخبي الرُّوحي والعقليّ... شريكي الوجوديّ..."، وهو قالها في كلّ حال، وبدهشةٍ عالية: "يا لجدارتك الشّعريّة" أيُّها البحر. و"غرفتي تتضافر. أنا اتضافر. أشبِّه نفسي أحيانًا بجبلٍ أبيٍّ صامت... الوحدة الشّموليَّة، والعزلة العزلاء..."، بل للجبل مهنة كونيّة في أن يكون "حارسًا وصديقًا وساهرًا أبديًّا على فكرة الامتلاء...". وأشياؤه المطر والفقد والألم والموسيقى، والمرأة النور والمستحيل معًا، ودفء العائلة، وصوت فيروز، واللوحات التشكيلية والقرية و"البراري التي تهشل فيها" روحُه الهائمة، والكلمات التي تنسكب فيه "كما فوق هاوية".
ومن المحال رصد لائحة "الأشياء المُندمِجة" في العالم الفسيح لغرفةٍ بلا حدود وبلا أسوار، بل لغرفةٍ هي الحياة بأسرها داخل عالمه الجوَّانيّ الذي كمصهر لكلِّ شيء في كيانه. وطبعًا: الكتُب والمكتبة التي "في مرتبة الكينونة الرّوحيّة"، وتوأمها اللغة التي ستصير "بيته العظيم"، "لغة الشوق الفرنسية" وأثرها العميق في نقاء الحساسية الشعريّة. واللغة العربية التي "يُقيمُ فيها وتُقيمُ فيه"، وعلاقته معها تضعه "في مصاف العشّاق الزاهدين المتواضعين"، وهي تُمثِّل عنده "بداهَة شبه مطلقة، مثل بداهة الينبوع الذي لا يكفّ عن كونه ينبوعًا".
يُدهشنا "كتاب الغرفة" بأنَّه يختزنُ في قلب عواصفه "مفاتيح" أساسيّة في سيرةٍ واقعيَّة لا تمسح الرُّوحُ الشعريَّة أثرها، بل تضيئها بوميضها إيضاءً ساطعًا. هنا وهناك يمكن التقاط الدوافع الحيويَّة لكتابة هذا الدّيوان أو غيره من مؤلّفات الشّاعر منذ العام 1981. أيضًا، تلك اللوامع الباهرة في فقرات أساسية منها ما يتعلّق ب"كلّيّة التربية-الجامعة اللبنانية-دار المعلّمين العليا" قبل الحرب، "المكان الوطنيّ المجتمعيّ المدنيّ العقليّ الفكريّ الثقافيّ... أحد المختبرات الموهوبة التي صنعت لبنان التعليميّ التربويّ الثقافيّ الفكريّ..." في فترة لبنانيّة تجلَّت فيها "مفاهيم الثقافة والأنسنة والاجتماع في أعمق معانيها ودلالاتها الخلَّاقة"، وشهدت عبر أجوائها الطلَّابية تكوُّن "حركة الوعي" خارج أطُر الأحزاب الطائفيَّة. كان ذلك لبنان الأرفع "الّذي دمّرته الحربُ، ونخرت نخاعه الشّوكيّ، الرّوحيّ والمادّيّ".
يذكر أيضًا، بكلّ ما تثيره الذّكرى من وجعٍ فكريّ وقلبيّ، "المانيفست الثوريّ الخلَّاق الذي كان ’ملحق النهار الثقافيّ‘.. إذ كان يحاورُ فيه الوجدان الجمعيّ الحرّ، لكن الرازح تحت كتلٍ من ركامات القهر والجور... والعوز... والخوف". جعل "الملحقُ" حبرَه بارقًا، مغامرًا، متخطّيًا فيه الخطُوط الحُمْر للكتابة في أزمنة الاستبداد الديكتاتوريّ". وبحقٍّ يقولُ شاعر "الغرفة" وروحها الشَّاهِدة: "الملحق... كان الصَّهيلَ الألذّ في الصّحافة الثقافيَّة العربيَّة".
نبض