أنا حبيب هذه اللغة العربيّة

ثقافة 18-12-2025 | 10:12

أنا حبيب هذه اللغة العربيّة

أنا حبيب هذه اللغة العربيّة. فكيف أكون وحيدًا؟! بل كيف لا أكون وحيدًا؟!
أنا حبيب هذه اللغة العربيّة
الخط العربي. (أ ف ب)
Smaller Bigger
أستلُّ من "كتاب الغرفة"، الصادر للتو لدى "هاشيت أنطوان" (نوفل) ما يأتي، في مناسبة اليوم العالميّ للغة العربيّة:

عشتُ وحيدًا. هذا صحيحٌ للغاية. لكنّي أُقيم في اللغة العربيّة. هي بالأحرى تقيم فيَّ، فكيف أكون وحيدًا؟!
أذكر أنّي كنتُ أردّد، منذ الصفوف التكميليّة، في قرارتي غالبًا، وفي العلن حينًا، أنّ اللغة العربيّة لن تكون عندي وسيلة تعبير، بل ستكون غاية. وأنّ حبّي لها سيرافقني مدى حياتي، وسأعبّر لها عن هذا الحبّ، بطريقتي الخاصّة، وبأسلوبي الشخصيّ، وبأنّي لن أُشبه أحدًا في هذا الحبّ، ولن يشبهني فيه أحد.
كرّستُ قراءاتي منذ ذلك الحين، لترسيخ هذا الانتماء الحبيب، ولبلورته، وتنظيفه من الشوائب، وتحريره من المؤثّرات. لم تكن هذه المسألة عاطفيّةً فحسب، بل عقليّة للغاية. فقد كان ينبغي لي أنْ أعثر على مكانٍ فيها، أنضمّ إليه، يكون أنايَ، وأكون أناه. كان ينبغي لي أنْ أتعذّب، أنْ أشقى، أنْ أسهر، أنْ أتأمّل، أنْ أجرّب، أنْ أختبر، أنْ أنقّب، أنْ أشذّب، أنْ أليّن، أنْ أدجّن، أنْ أتدجّن، وأنْ أنسحب، معتزلًا في قعر كياني الشخصيّ، اللغويّ، لعلّي أجد لقيا، تكون هي لقيايَ.
بحثًا عن الأسلوب الذي هو الشخص، أمضيتُ عمرًا بكامله، من دون أنْ أشعر بأنّي حقّقتُ تمامَ غايتي المنشودة. كان هذا البحث، ولا يزال حتّى اللحظة، مرتبطًا بالعثور على الذات اللغويّة، فصار مع المراس اليوميّ الدؤوب، يشبه الإدمان، أو الشغف، أو الهَوَس، لكنْ من دون أنْ يعتريه استغراقٌ في الشكلانيّة المعيبة، التي لا أستسيغها البتّة، ولا أستسيغ مَن يجعلها أقنومًا له في الكتابة. 
أنْ تكون صاحبَ أسلوب، يعني أنْ تحظى بأرضٍ ليست مملوكةً من أحد. هل أتجاسر فأقول إنّي صاحب أسلوبٍ في اللغة؟ جوابي أنّ علاقتي باللغة العربيّة تضعني في مصاف العشّاق الزاهدين المتواضعين، لا في مصاف الذين يستعرضون فعائلهم الميمونة.
لا هواجس من هذا النوع يمكنها أنْ تترك بصماتها على تجربتي. وإذا كان ثمّة هواجس، فأغلب الظنّ أنّها من تلك التي تجعل الأسلوب الخصوصيّ غير مرئيٍّ تقريبًا، من فرط شفافيّته، أو تواضعه.
شأني مع هذه اللغة، هو شأني بالذات مع نفسي، ومع المرأة.
وإذ تُسلِس لي، هي، القياد، أجدني أعاملها لا بالذكورة، ولا بالاغتصاب، ولا أيضًا بالخفّة، أو باللّامبالاة. بل بالتأنّي العاشق، الساهر، المنتظر، المتحرّق، المشتعل، باعتباري المبتدئ الدائم، والممتَحَن الدائم، والخائف دائمًا من أنْ لا أكون أهلًا لها، وعلى قدْر مقامها، ورغباتها.
أكتب لنفسي ما يأتي: لو لم أجْنِ من حياتي إلّا معرفتي المتواضعة باللغة العربيّة، وتَمَكُّني المتواضع أيضًا من الكتابة فيها، نثرًا للتخاطب وأدبًا خالصًا، لَما كنتُ أستحقّ ربّما أنْ أحيا هذه الحياة، وأتمتّع بخيراتها، وكنوزها، وأسرارها.
بالحبر الجهير أسطّر، شاهدًا ومعترفًا: ما كنتُ لأكون أنا، لولا هذه اللغة. ما كنتُ لأكون حقًّا أنا، لولا خبرة الحبّ التي أكتسبها يوميًّا من تمرّسي بها، وعلاقتي معها. هذه اللغة العربيّة، فضلُها عليَّ، كفضل أمّي وأبي اللذَين أنجباني لأكون منذورًا لها بالذات، ومنذورًا في الآن نفسه لكَرَم القلب والحرّيّة، اللذَين سأظلّ أكرّس لهما ما بقي من أيّامي.
تُمثِّل هذه اللغة العربيّة عندي بداهةً شبه مطلقة، بل هي بداهةٌ مطلقة، مثل بداهة الينبوع الذي لا يكفّ عن كونه ينبوعًا. كرامتُها لديَّ تُوازي كرامة الحلم المفتوح على جرحه الأبديّ، غير القابل للارتواء، أو الاكتفاء، أو الاندمال.
ما أحببتُ شخصًا، أو مكانًا، أو فكرةً، أو قضيّةً، إلّا أكرمتُهم بما يختزنه قلمي من حبر هذه العربيّة، الذي هو الغنى الفريد الذي أعتزّ بأنّي أملكه في عقلي، ملكًا معنويًّا لا يمكن أنْ ينال منه تَغَيُّرٌ في بورصة الزمان والمكان، ولا انقلاب. 
ترى، ما يكون الحبّ؟ خذي منّي، يا غرفتي، هذا الجواب: أنْ لا ينتهي الحبّ، أبدًا. ولا بسدل الستار، ولا حتّى بالموت ينتهي. 
خذي حقيقتي كاملةً: مثلما لا ينتهي حبّي للناس، والأمكنة، والأفكار، والقضايا، الذين أحببْتهم، هكذا هو حبّي للغة العربيّة. لا أعرف أنْ أعيش خارج هذه اللغة، أو أفكّر من خارجها. هي جسدي الحقيقيّ، وروحي، ولاوعيي، وعالمي الواقعيّ، والآخر الافتراضيّ، والتخييليّ. وهي أيضًا وطني.
أهو مَرَضٌ، هذا الحبّ؟ أم قَدَرٌ؟ أم انتماءٌ؟ أم نعمةٌ؟ أم لعنة؟ البحث لديَّ عن جوابٍ، علميّ أو نفسيّ، دقيق لهذا السؤال، لا يهمّ. صدِّقيني، هو لا يهمّ البتّة. فأنا لا أُخضِع حبّي لأيّ سقف. حبّي، سقفُهُ السماء. 
نشأتُ في بيتٍ كان الأهل فيه يستأجرون الكتب الأدبيّة لقراءتها على ضوء القنديل أو الشموع. كان حبر الكتاب، ممزوجًا بالتقشّف، وعطر الكرامة، هو جلُّ ما أتذكّره من طفولتي العظمى. إن خسرتُ كلّ حياتي، فلن أخسر هذه الصورة. 
إنّه الفجر. أستيقظ مبكرًا، أصنع قهوتي. وأجلس وراء الشاشة. شيءٌ من الرذاذ الخفيف يذكّرني بأنّي ولدتُ في العاصفة، وتحت المطر. ذلك الماء هو الحبر. يعزّ عليَّ أنْ تَؤول اللغة العربيّة على أيدي كُثُرٍ من مستخدِميها، إلى ما آلت إليه. لكنّي لن أستسلم. أيّتها اللغة العربيّة، إنّي أحبّكِ!
أنا حبيب هذه اللغة العربيّة. فكيف أكون وحيدًا؟! بل كيف لا أكون وحيدًا؟!

الأكثر قراءة

أوروبا 12/18/2025 2:58:00 PM
الطبيب أدين بتسميم 30 مريضاً خلال عمليات جراحية وتوفي 12 منهم!
سياسة 12/18/2025 3:34:00 PM
إعلام عبري: روي أمهز تفاصيل عن "إحدى أكثر مبادرات حزب الله سرية وتمويلاً، وهو مشروع استراتيجي وإبداعي وطموح أُطلق عليه اسم "الملف البحري السري"
مجتمع 12/18/2025 1:31:00 PM
كيف سيكون طقس اليومَين المقبلَين؟
مجتمع 12/18/2025 2:51:00 PM
لا تزال الحادثة قيد المتابعة من قِبل الأجهزة الأمنية المختصة