وقار الأداء ورهان الثقافة... رفعت طربيه يستدعي "هاملت" إلى "An-Nahar News Café"
في مساءٍ بيروتيٍّ مشبعٍ بالأسئلة الشكسبيرية الصعبة، اختارت "النهار" أن تُعيد المسرح إلى قلبها بوصفه فعلاً ثقافيّاً عميقاً، وأن تعود معه إلى دورها في صياغة المشهد الثقافي اللبناني والعربي.
في "An-Nahar News Café"، قدّم الممثل رفعت طربيه مساء الاثنين مسرحية "هاملت، الأمير المجنون" منفرداً، في امتداد طبيعي لمسيرة "النهار" التي، على مدى 93 عاماً، كانت مساحةً للفكر، ومنصّةً للحوار، ومجموعةً إعلاميةً رائدة عربياً، تعرف أن الثقافة فعل حياة لا هامشٌ لها.
النصّ الذي لا يشيخ
ليست "هاملت" مسرحيةً عادية في تاريخ وليام شكسبير، بل مختبرٌ مفتوح للإنسان في أقصى حالاته: الشك، التردّد، الغضب، والرغبة في الانتقام حين يصبح العدل سؤالاً أخلاقياً معقّداً. هو الأمير الذي يُطالَب بالثأر لوالده، لكنه يختار أن يفكّر، أن يشكّ، أن يضع الجنون قناعاً كي يفضح جنون العالم من حوله. لذلك تجاوز "هاملت" الزمن لأنّه يعكس هشاشتنا البشرية أكثر ممّا يعرض بطولة جاهزة.

في هذه القراءة المسرحية، اختار رفعت طربيه أن يذهب مباشرةً إلى قلب النص: الجنون. الجنون كحالة اضطراب داخلي، كعقلٍ يتأرجح بين يقينٍ لا يُحتمل وواقعٍ لا يُطاق. وحيداً على الخشبة، حمل طربيه نصاً شكسبيرياً من أثقل النصوص وأكثرها تعقيداً، وأدّاه بالعربية الفصحى، في رهانٍ صعب على الذاكرة، وعلى الحضور، وعلى قدرة الجسد والصوت على احتواء شخصياتٍ متعدّدة في جسدٍ واحد.
كان في هذا الاختيار شيء من المجاز: ممثلٌ واحد في مواجهة نصٍّ عملاق، كما يقف هاملت وحيداً في مواجهة قدره. تنقّل طربيه بين الشخصيات عبر النبرة والحركة، كأنّ كلّ الشخصيات تسكن رأس هاملت، وتتنازع داخله.

رفعت طربيه… الوقار مواجهاً نصّه
عبقرية شكسبير لا تكمن في الأجوبة، بل في فتح الاحتمالات؛ ونصّ "هاملت" تحديداً يحتمل قراءاتٍ لانهائية، من السياسة إلى الفلسفة، ومن علم النفس إلى سؤال الجنون والعقل. في العرض تركيز على البعد الداخلي للنص، وعلى الصراع الذهني والكلمة بوصفها عبئاً ومعنى في آن واحد. وهو خيارٌ جريء، لأنّه يفترض جمهوراً يصغي، ويلاحق الفكرة، ويتعامل مع المسرح كمساحة تفكير لا استهلاك سريع.
لا يمكن فصل التجربة عن اسم رفعت طربيه نفسه. هو ممثل من طينة نادرة، يحمل عراقة المسرح وهيبته، ويقف على الخشبة بجدّية الأستاذ لا بخفّة الاستعراض. حفظه لنص شكسبيري بهذا الثقل، وأداؤه وحيداً، هو بحدّ ذاته فعل احترام للمسرح، وإعلان إيمان بالكلمة وبقدرتها على الصمود.

"النهار" حين تتحوّل إلى خشبة
أن تُقدَّم هذه المسرحية في "An-Nahar News Café" ليس تفصيلاً في مسيرة مؤسسة إعلامية؛ هو تأكيد جديد على أنّ "النهار" لم تكتفِ يوماً بدور الناقل أو المراقب، بل اختارت أن تكون فاعلاً ثقافياً. أن تفتح مساحتها للمسرح، للفكر، ولتجارب فنية غير سهلة، هو استمرار طبيعي لمسيرتها الطويلة، حيث تتقاطع الصحافة مع الثقافة، ويصبح الحوار الحيّ امتداداً للكلمة المكتوبة.
في تلك الليلة، شهدنا محاولة صادقة لإعادة طرح سؤال: ما الذي يمكن أن يفعله المسرح اليوم؟ وما الذي يمكن لصحيفةٍ عريقة أن تكونه في زمن التحوّلات؟ بين هاملت المجنون، وجمهور يعرف أنّ الجنون أحياناً هو أعلى درجات الوعي، كان اللقاء. لقاءٌ يستحق التحيّة، لأنّه يصرّ على أن الثقافة لا تزال قادرة على أن تجمعنا حول كلمة وخشبة، وحول أسئلة مفتوحة نتهرّب من الإجابة عنها أحياناً.
نبض