صديقي أبو نبيلة، كان اسمه أحمد أبو دهمان (1949 - 14 كانون الأوّل 2025). وأمس الأحد، خسرته شخصيًّا، وخسره كثرٌ في بلده المملكة السعوديّة وفي العالم، بعدما رحل بصمتٍ جليلٍ ومهيب، كحضوره الذي بقي على الدوام منضويًا في الـ Anonymat، أي الغفليّة، على طريقة اللطيف النسيم وخلّانه.
صبّحته بالخير أوّل من أمس، حيث يقيم في الرياض التي عاد إليها بعد إقامة مديدة في فرنسا تزوج خلالها السيّدة النبيلة أنياس، وأنجبا نبيلة. صبّحته بالخير، فردّ الصباح بأطيب منه. لم يخطر في بالي قطّ، والبتّة، أنّي لن أتمكّن بعد اليوم من إرسال التحيّة إليه، ولا هو أسرّ لي بأنّه على الوشك. فقط، قبل نحو شهرين، قال باختصارٍ شديدٍ وغامض، أنا متعب يا عقل، لكنْ من دون أنْ يفصح. ثمّ غادر كغيمةٍ بيضاء ووحيدة.

من يقرأ كتابه الوحيد والفريد، La Ceinture، الصادر في الفرنسيّة لدى "غاليمار"، في العام 2000، والمنقول إلى عدد من اللغات، بينها العربيّة بالطبع (بحبر أبي دهمان نفسه)، يدرك أنّ الطفل الذي ولد في قرية آل خلف في محافظة سراة عبيدة بمنطقة عسير، جنوب المملكة العربيّة السعوديّة، هو نفسه الرجل الذي فقدتُهُ. وهو نفسه الروائيّ الذي كتب تلك الرواية الوحيدة والآسرة، عن ذلك الطفل الذي كانه، وبقي طفلًا أنيقًا ودمثًا ولائقًا، كريم الوجود والقلب والعقل.

لم يغادر أحمد أبو دهمان قريته آل خلف تلك، ولا خصوصًا طفولته، المضمّخة والمضرّجة بالشظف والفقر والألم والتيه والأمل والحلم و... الأصالة. لكنّه لم يكن ضحيّتها، ولا هي كانت جلّادته، إذ جعلها بموهبته ملاذًا وموئلًا دائمين، فلم يستبدلها بأيّ طفولة، كما لم يستبدل قريته، ولا حتّى بباريس. علمًا أنّه انتمى إلى عاصمة النور التي تعلّم فيها، واكتسب ثقافتها، فكان روحًا إنسانيّةً حديثةً مندرجةً في نسيجها العضويّ، من دون أنْ يشعر يومًا بالاقتلاع أو الاستلاب أو الاستغراب.

بقي أبو دهمان يحنّ إلى طفولته البطلة، الأبيّة، وإلى القرية الأولى التي لم يغادرها، ولا هي غادرت ذاكرته. صحيح أنّه عاش في باريس باريسيًّا، لكنّه كان في الآن نفسه قرويًّا سعوديًّا أصيلًا بمحتده، في انسجامٍ قلّ نظيره، وقد ساهمت زوجته الفرنسيّة في تدبيج هذا الانسجام، واحتضانه، والارتقاء به، بخفرٍ لا يعدله خفر.
رواية "الحزام" هي كتابة الهويّة بامتياز، وسؤالها الشائق، في مسارها الحيويّ والديناميكيّ بين الصحراء والغرب، بين السعوديّة وفرنسا، بين القرية والمدينة، بين الضيق والرحابة، بين البراءة والوعي، بين القسوة واللين، في روحٍٍٍ إنسانيّةٍ عالية، جديرة بالحياة بعد الموت.
هنا الطفولة في شقائها الوجوديّ، موصولةً بكرامة السرد وإنسانيته.
ضيعانكَ، يا أبا نبيلة، يا أخي أحمد أبا دهمان.
نبض