"فتاة المتاهة" لغيوم ميسو... نص يطارد الحقيقة حتى تتشظى
في "فتاة المتاهة" الصادرة عن دار "هاشيت أنطوان-نوفل" (ترجمة سمر معتوق)، يذهب الكاتب الفرنسي غيوم ميسو أبعد من مجرد حبكة بوليسية محكمة، ليختبر الطريقة التي نتلقى بها السرد نفسه، وكيف يمكن للنص أن يتحول إلى مساحة يتلاشى فيها الفاصل بين الوقائع والتخيلات.
وعلى الرغم من أن الرواية تبدأ بما يشبه المشهد السينمائي الواضح: اعتداء على الصحافية الإيطالية الثرية أوريانا دي بييترو فوق يخت فاخر في خليج "كان"، إلا أن ميسو يستخدم هذه البداية كمنصة لإرباك يقين القارئ، لا لقيادته نحو حلّ منطقي. فالجريمة ليست سوى الباب الأول إلى متاهة أكبر، متاهة الوعي حين يختلط بالحاجة، والخوف حين يأخذ شكلاً ملموساً في مخيلة صاحبه.
يتقن ميسو رسم البداية المحكمة التي تغوي القارئ باعتبارها مدخلاً لرواية بوليسية تقليدية: ضحية، مشتبه بهم، تحقيق متشعب، شرطيّة تحاول أن تثبت كفاءتها. لكن كل خطوة لاحقة تدفع الحكاية إلى منطقة مختلفة، حيث لا يعود السؤال هو "من فعلها؟" بل "كيف وُلدت الحكاية أصلاً؟" و"أي جزء منها ينتمي إلى الواقع، وأي جزء صاغته شخصيات تبحث عن مخرج من ضيقها؟".

هنا تظهر شخصية أديل كيلر، التي تُقدَّم أولاً كمربّية لأطفال أوريانا، ثم كصديقة، ثم كعشيقة محتملة لزوجها أدريان. وجود أديل يبدو متيناً داخل النص لدرجة تمنحها حضوراً يتجاوز الشخصيات الأخرى. لكن هذه القوة نفسها تصير غريبة حين نفهم أن أديل — بكل تفاصيلها — لم تكن سوى بناء نفسي داخل ذهن أوريانا، التي كانت تواجه مرضاً قاتلاً وتستبق رحيلها بابتكار امرأة تملأ المكان الذي تخشاه أن يُصبح فارغاً بعد موتها. لا يتم التعامل مع هذا الكشف بوصفه حبكة صادمة فحسب، بل بوصفه تأكيداً على أن الإنسان يصنع تهديداته بقدر ما يصنع أوهامه، وأن الخوف قد يكون أكثر واقعية من الواقع ذاته.
ينقل ميسو المتاهة من رأس أوريانا إلى التحقيق نفسه، الذي تتولّاه المحقّقة جوستين، وهي شخصية لا تقلّ هشاشة عن الضحية. تعيش جوستين جرحها الخاص إثر خيانة زوجها ورغبته في الأبوة مع امرأة أصغر سنّاً، وتواجه شعوراً دائماً بالنقص والخذلان. هذا التاريخ الشخصي يجعل نظرتها إلى القضية محمّلة بانحيازات غير واعية، فتتجاوز الحدود المرسومة لعملها، وتتورّط عاطفياً - وربما أخلاقياً - مع أدريان، زوج الضحية. هكذا يخلق ميسو طبقة جديدة من الالتباس: ليست أوريانا وحدها من تعيد إنتاج الواقع بما يوافق احتياجاتها، بل جوستين أيضاً، التي تفقد موضوعيتها وتجد في قضية غير متوازنة ملاذاً لتفسير حياتها الشخصية.
تتراكم هذه الخطوط السردية بطريقة تجعل الرواية تبدو كأنها تُكتب من الداخل إلى الخارج. فكل حقيقة تنكشف تخلّف وراءها ظلا من الشك، وكل شخصية تتقدّم في الحكاية تحمل معها احتمال أن تكون مرآة لشخصية أخرى. يعتمد ميسو على تقنية مشابهة للكولاج، حيث تتجاور مشاهد التحقيق مع تقارير صحافية، ومقاطع من الذاكرة، ولقطات مشوّشة من استجوابات أوريانا في المستشفى، ما يدفع القارئ إلى الشك في الزمن وفي منطق تطوّر الأحداث. ليست الغاية هنا خلق تشويق متتابع بقدر ما هي تعويم الحكاية على أدوات إدراكية هشة، تجعل كل يقين مؤقتاً، وكل تفسير قابلاً للانهيار بعد صفحة أو فصل.

حتى الجانب النفسي للرواية لا يقدَّم كتشخيص طبي، بل كإضاءة على قدرة العقل على إنتاج روايات موازية ليحتمي بها من الألم. الانفصام الذي تعانيه أوريانا ليس انقطاعاً عن الواقع بقدر ما هو محاولة لإعادة ترتيبه بطريقة تؤمّن استمرارية العائلة بعد رحيلها. والخطر الحقيقي لا يكمن في الوهم، بل في اللحظة التي يصبح فيها الوهم أكثر إقناعاً من الحقيقة، وأكثر قدرة على تفسير ما يحدث.
يُرفق غيوم ميسو روايته بلائحة واسعة من المراجع الأدبية والسينمائية، لا بوصفها استعراضاً معرفياً، بل كجزء من بنية المتاهة نفسها. فهذه الإحالات تكشف أن السرد لا يولد من فراغ، بل من حوار متواصل مع نصوص تناولت الذاكرة والهوية والازدواج. أراد ميسو أن يضع روايته داخل هذا السياق، ليذكّر القارئ بأن الحقيقة ليست خطاً مستقيمًا بل طبقات تتراكم، كما في أعمال بروست أو هايسميث أو كوروساوا. وهكذا تتحوّل المراجع إلى مفتاح قراءة، تضيء أن المتاهة هنا ليست شخصية فقط، بل ثقافية وفكرية أيضاً.
وفي خاتمة الرواية، لا نخرج بإجابات، بل بوعي جديد تجاه الطريقة التي نقرأ بها. فالنص يتحوّل إلى امتحان لإدراك القارئ، يجعله يتساءل ما إذا كان يطارد قاتلاً أم يطارد سردية اختلقتها الشخصيات وشارك هو في تصديقها.
هذا النوع من الكتابة لا يعيد تعريف الرواية البوليسية فحسب، بل يعيد مركزتها حول السؤال الأعمق: ماذا لو كانت الحقيقة نفسها - لا الجريمة - هي المتاهة؟ بهذا المعنى، يقدّم ميسو نصاً يدعو القارئ لا إلى مطاردة المجرم، بل إلى مراقبة الطريقة التي تتولّد بها القصص داخل العقول، وكيف يتحوّل الأدب، أحياناً، إلى المرآة الأكثر قسوة التي نواجه فيها ما نخافه أكثر من الواقع.
نبض