"إهدن، أحبّكِ حتى النفس الأخير"
ليليان يمين
كلّما أطلّ الخريف، أشعر أنّ في داخلي شيئًا ينطفئ. ففي نهاية كلّ صيف، كنّا نغادر إهدن، تلك البلدة الجبلية التي لا تشبه سوى نفسها، متجهين نحو مدينة الشتاء والمدرسة. وكنتُ، في كلّ رحيل، أترك خلفي شيئًا من روحي.
كان الوداع مؤلما، الإبتعاد عن مشهد الجبل، الأدراج والرفاق والكنائس والأشجار والقادوميات التي كانت تفتح لي بابًا واسعًا على الدهشة، وخاصة لترك منزلنا الصيفي… ذلك البيت الذي كنتُ أراه كائنًا حيًّا يختبئ فيه صيفنا كلّه. كنت أتساءل كيف سيحتمل وحدته بعدنا، وكيف سيستسلم للصمت الطويل. وكان المشهد يبلغ ذروته حين تبدأ أمّي بتغطية الأثاث، وتوضيب الأشياء، وإنزال اللوحات عن الجدران: كأن البيت يطوي ذاكرته قطعةً قطعة، ويتهيّأ لسبات يشبه الغياب. عندها، كان الحزن يهبط عليّ كغمامة ثقيلة.
إهدن، بأدراجها التي تتناثر بين بيوتها كنبضات قلب، رسمت خريطة طفولتي. وما زلت، حين أغمض عينيّ، أرى تلك الأدراج كعروقٍ في راحة اليد، أعرفها كما أعرف نفسي، وأسمع وقع خطواتي القديمة تتردّد بين الحجارة.
وطالما كنتُ، وما زلت، حين أريد إلهاء الأولاد، أطلب منهم عدَّ الدرجات فيصعدون وينزلون، يلهثون ويضحكون، وفي داخلي سؤال لا يهدأ: هل أفعل ذلك لإسعادهم فقط، أم لأقول للأدراج إنني ما زلت هنا؟ فأروح أُعلّم هؤلاء الصغار حبّ تلك الحجارة وأهديها أصواتهم الصغيرة.
وكانت القادوميات: واحدة تصعد بنا نحو جبل سيّدة الحصن، حيث الهواء أخفّ من الهمّ، وحيث كنّا نمسك بطرف الوقت والسماء. وأخرى تهبط نحو ظلال وادي قاديشا العميق، حيث للصمت قدسيّةٌ تجعل الضحكات صلوات فتغرق الخشية في النهر وتسكنك طمأنينة أبدية.
بين تلك القادوميات ولدت رغبتي في الاكتشاف، تلك الشهية التي تدفع طفلةً إلى الابتعاد أكثر مما يجب، والتأخّر أكثر مما يُحتمل وكان التأنيب ينتظرني عند الباب: أمّي بصوتها المبلّل بالخوف، وأبي بحزمه الذي أعرف أنّه يخفي قلقًا لم يقلْه يومًا بل يحمّله إلى أمي. لم يطلبا سوى كلمة واحدة: أين كنتِ؟ لكن الحرية كانت جزءًا مز روحي وكنت أظنّ أن البوح يُفسد المغامرة ويُطفئ سحر الطريق.
واليوم، بعدما أصبحتُ أمًّا، أدرك حجم ذلك الخوف الذي لم أفهمه يومًا. أدرك أنّ ترك فتاة صغيرة تمضي وحدها كان صعبا أكبر مما تخيّلت، وأن الانتظار كان أكبر من قلبي الصغير آنذاك.
وهكذا أمضي، كلّ ما هبط ليل وأثقلت قلبي عتمة تسلّقتُ سرّا تلك الأدراج وطلع ضوء ، ورغم كلّ ما رأت عيناي ما زالت تشهد بسحر ذاك الجبل وجبروته ، كلما تلاعبت بي الأيام أقرأ اليقين على ذاك الجدار الحجري للكتلة، الأشبه بجباه الأقدمين ...إهدن أحبك حتى النفس الأخير.
وبقيت إهدن تسكنني…
كحجرٍ دافئ في القلب، كنسمةٍ لا تهدأ على جبين الروح، وكظلٍّ يتقدّم معي أينما ذهبت.
نبض