حكايات لم تُكتب عن بيكاسو: رواية الحلاق الذي عرفه عن قرب
هناك عدد لا بأس به من الكتب التي تناولت سيرة بابلو بيكاسو، ويمكن اعتبار كتاب "حلاق بيكاسو" لمونيكا تشيرنين ومليسا مولر من أحدث هذه الكتب، على رغم أن عنوانه يشي بغير ذلك.
الكتاب الذي صدرت قبل أيام ترجمة طبعته الثانية من الألمانية إلى العربية ("دار العربي" - ترجمة معتز المغاوري)، ينطلق من علاقة صداقة ربطت بين الفنان العالمي وحلاقه الخاص أوخينيو أرياس (1909 - 2008)، ومن ثم فإنّه يتميّز عن غيره من الكتب التي تناولت حياة بيكاسو في أنه ينطوي على لمحات إنسانية ميَّزته لكنها اختبأت طويلاً تحت عباءة شهرته الأسطورية.
لكن الطبعة العربية خلت من صور جمعت الفنان والحلاق، كانت كفيلة أن تزيده جاذبية، مع أن تشيرنين ومولر يذكران أنّ المصورَيْن برتس هيرل وأندريه فيلرز سُمح لهما باستخدام صور التقطاها للصديقين أثناء حضورهما عدداً من مباريات مصارعة الثيران في جنوب فرنسا.
امتدّت علاقة الصداقة بين بيكاسو وأرياس عشرين عاماً. وهي، كما تقول الكاتبتان، صداقة لها جذر مشترك هو حبّ إسبانيا، وينقلان عن أرياس إنها جاءت في وقت كان بيكاسو بعد تخطيه السبعين من عمره، متعطشاً للحب والثقة وقد وجدهما لدى كلّ من هذا الحلاق المثقف وكذلك لدى زوجته الأخيرة جاكلين. لم تكتف تشيرنين ومولر بلقاءات طويلة مع أرياس وأفراد أسرته لإنجاز هذه السيرة المزدوجة، ولكنهما قابلتا أيضاً كثيرين ممّن كانوا شهوداً على تلك الصداقة، كما اطّلعتا على كثير من الكتب التي تناولت سيرة بابلو بيكاسو (1881 - 1973) وزارا مسقط رأس أرياس بويتراغو، حيث يوجد متحف أسسه عام 1982 وأطلق عليه اسم بيكاسو، وفاءً، كما يقول الحلاق البارع، "من تأثير قوي في تفكيري وسلوكي" (ص 226).

كتب بيكاسو في شبابه على حائط في شقة جيمي سبارتس: "شعر ذقني مقدس مثلي، حتى حين ينفصل عن جسدي" (ص 83). وتعامل أرياس مع تقديس بيكاسو لشعره بهدوء واعتبره نوعاً من الهوس، ويتذكر أنه كان يحتفظ بشعره المقصوص في علبة! كما يتذكر أنه وبيكاسو المعروف بشخصيته المعقدة، ربطتهما مشاعر ودّ صادقة منذ أن التقيا للمرة الأولى حتى رحيل الفنان في الثامن من نيسان/أبريل عام 1973 عن 92 عاماً؛ "عادة ما كان يقال لي: لكن يا أرياس حلاقة شعر بيكاسو ليست فناً، فبيكاسو لم يكن لديه شعر تقريباً، فكنتُ أجيب: أنتم مخطئون. حلاقة شعر الأصلع أصعب؛ لأن عليك أولاً البحث عن الشعر القليل" (ص 85). لاحقاً كان يذهب إليه كثيراً للثرثرة معاً، وقد أحبَّ بيكاسو هذا للغاية: "تعال متى شئت يا أرياس، فحين تأتي لزيارتي أشعر أنني في إسبانيا" (ص 86).
ولد أرياس عام 1909، فيما ولد بيكاسو عام 1881، أي أنه كان يصغره بـ 28 عاماً، ولهذا كان يخاطبه بـ"حضرتك" فقد كان يعتبره أباه الروحي، قبل أن يكون صديقه المقرب. جمع بينهما أيضاً الإيمان بالجوانب المضيئة في الأفكار الشيوعية، ومحاربة الفاشية، والولع بالقراءة، وارتياد حلبات مصارعة الثيران.
شارك أرياس في الحرب الأهلية الإسبانية، باعتباره شيوعياً مناهضاً لفاشية فرانكو، قبل أن يلجأ مع آلاف غيره من الإسبان إلى فرنسا، ويعيش فيها ما تبقى من حياته. وفي فرنسا شارك ضمن صفوف مقاومة النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. وتقول تشيرنين ومولر: "يمكن وصف أوخينيو أرياس بأنه مناضل شيوعي، إلا أنه رفض منذ معايشته المؤلمة لسنوات الحرب والمقاومة، وحشية الأيديولوجيات المتصلبة". وتضيفان: "لم يكن أرياس ينتمي إلى الشبكة التي تورط فيها معجبو بيكاسو وأصدقاؤه المتطفلون وعشيقاته السابقات وأقاربه قليلو القيمة. ثقة أرياس بنفسه، تلك السمة الإسبانية النمطية، حمته وجعلته جديراً بالاهتمام في دخيلة بيكاسو" (ص 153).
عندما مات بيكاسو، بادر أرياس إلى جلب عباءة سوداء مصنوعة في إسبانيا لتكون كفناً لصديقه؛ "كانت الشرطة تمنع أي أحد من دخول منزل بيكاسو المتوفى، وكان أرياس هو الوحيد الذي سُمح له بذلك"، بناءً على توصية من جاكلين المكلومة. ولم يُسمح سوى لعدد قليل من الأشخاص بحضور مراسم دفن بيكاسو، وكان أرياس واحداً منهم، علماً أن المنع شمل أبناء الراحل وحفيديه.
خاتمة الكتاب جاءت في ثلاث صفحات كتبها أرياس بنفسه، وممّا جاء فيها أن بيكاسو "سخَّر نفسه لخدمة الفن والثقافة وحارب من أجل السلام. عاش ومات مواطناً إسبانياً". وقد توفي أرخينيو أرياس في نيسان عام 2008، أي بعد نحو سبع سنوات من صدور الطبعة الأولى من الكتاب الوحيد الذي يربط حياته بالسنوات العشرين الأخيرة في حياة أشهر فناني العالم في العصر الحديث.
نبض