جبران اليوم في إِيطاليا: نُصْبٌ على قمَّة (الحلقة الأَخيرة: 4 من 4)

ثقافة 06-12-2025 | 11:17

جبران اليوم في إِيطاليا: نُصْبٌ على قمَّة (الحلقة الأَخيرة: 4 من 4)

هذا هو جبران الخالد لكل يوم، وسيبقى خالدًا كل يوم.
جبران اليوم في إِيطاليا: نُصْبٌ على قمَّة (الحلقة الأَخيرة: 4 من 4)
المشانق في ساحات جبل لبنان.
Smaller Bigger

في 21 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وفي مدينة أَغْريجِنْتو (صقلية-إيطاليا)، وفي "وادي المعابد" وسْطَ واحةٍ أَثَريةٍ (أَدخَلَتْها منظمةُ اليونسكو في كانون الأَول/ديسمبر 1997 إِلى "لائحة المواقع الأَثرية في العالم")، أَقامت "أَكاديميا الدراسات المتوسطية" احتفالًا داخل "حديقة الأَبرار" (تفاصيله في الحلقة الأُولى من هذا المقال)، جرى فيه زرعُ أَنصاب تذكارية لثمانية أَعلام عالَميين ذوي أَثر إِنساني، بينهم جبران، رفع الستارةَ عنه الباحثُ الإِيطالي الجبراني المدقِّق فرنشِسكو ميديتشي.
في ندوة سبقَت احتفالَ الأَنصاب، أَلقى فرنشِسكو ميديتشي كلمةً أَقتطفتُ منها مقاطع في الحلقتين الثانية والثالثة من هذا المقال، وهنا جزء ثالث أَخير.

تهديد جبران بالقتل
كما كان مُتَوَقَّعًا، بقيَت الحكومة التركية على رفْضها غوثَ سوريا. وأَكثر: في تلك الحقبة أَخذ جبران يتلقَّى تهديدات بالموت. من هنا رسالتُه إِلى ماري هاسكل (5 تشرين الأَول/أُكتوبر 1916)، وفيها: "جواسيسُ الأَتراك يراقبون كلَّ ما أَقوم به. لكنني لا أَستطيع إِيقاف عملي من أَجل سوريا. وهذا أَقلُّ ما يمكنني القيام به. تركيا تسعى بكل جهد إِلى التفريق بين السوريين حتى يفقد بعضُهم ثقتَه بالبعض الآخَر. وفي تحليلهم أَنَّ المساعدات الـمُرسَلَة إِلى اللجنة لن تصلَ إِلى المعذَّبين في سوريا. أُؤْمن أَنَّ عليَّ مخاطبة المسؤُولين هناك وإِقناعهم، فإِذا بدَرَ من سوريٍّ في الولايات المتحدة ما يُغضِب تركيا، تنتقم منه تركيا بتعذيب أَهله في سوريا. التهديدُ يلاحقني لكنني لا أَكترث له. قبل أَيام وَصَلَتْني رسالةٌ مُغْفَلَةُ الـمُرسِل، جاء فيها: "تركيا ليست ميتة، ويمكنها أَن تأْتيك وتجدَك حيثما تكون. إِن لم توقِفْ ما أَنت تقوم به، فقريبًا لن تعود حيًّا كي تخبر عنه". ومع الرسالة رسْمُ خنجر مبقَّع بالدم. ولو كان الأَتراك فعلًا ينْوون قتلي هنا في نيويورك، ما كانوا ليُنْذروني.على أَيِّ حال، اتصلتُ فورًا بوزارة العدل وسجلتُ شكوى".

 

تتسوَّل قبل أَن تسقط من الجوع.
تتسوَّل قبل أَن تسقط من الجوع.

 

غير أَنَّ ذاك الجهد الفائق في الاندفاع، أَوقع جبران في الوهن الشديد أَكثر مما كان يحتمل. سقط طريح الفراش، وكتب إِلى صديقه الشاعر ويتِّر بايْنِر (1881-1968): "حكَم الطبيبُ أَنني ضحية انهيارٍ عصبيٍّ قاسٍ. فاندفاعي إِلى العمل المتواصل الـمُضْني تخفيفًا مآسيَ بلادي، أَوقعني في زُكامٍ حادّ، وأَلمٍ في الناحية اليُسرى من وجهي وذراعي وساقي".

المساعدات في "القيصر"
في صيف 1916 أَطلقَت "اللجنة الأَميركية لغَوث الأَرمن والسوريين" حملةَ تبرُّعاتٍ استثنائيةً واسعة، حصدت نجاحًا ثريًّا بين الأَميركيين، حتى أَن البحرية الأَميركية وضعَت في تصرف الناشطين الباخرة "قيصر" لإِيصال الإِعانات الإِنسانية إِلى طالبيها.

أَسرع جبران إِلى مشاركة ماري هاسكل بهذا الخبَر السعيد، فكتب إِليها في الرسالة ذاتها (5 تشرين الأَول/أُكتوبر 1916): "تعاوُنًا مع الصليب الأَحمر، سنرسل في هذه الباخرة موادَّ غذائيةً وأَدويةً وحاجاتٍ أُخرى. وببادرةٍ نبيلةٍ من اللجنة الأَميركية، سنتمكَّن من إِرسال مساعداتٍ بما لا يقلُّ قيمةً عن 700 ألف دولار. كل هذا يا ماري نتيجةُ العمل والعمل والعمل المضْني ليلًا نهارًا. لكنَّ هذا، بالمقابل، أَفضلُ عملٍ قمتُ به في حياتي. لم أُعطِ جسدي دقيقة واحدة من الراحة. فضياع دقيقة واحدة في هذه الأَوضاع هو ضياع فرصة، ولو واحدة، للمساعدة فيما روحي تسمع نداءات استغاثة من آلاف المعذَّبين".

 

الباخرة “قيصر“ ولائحة المعونات التي لم تصِلْ.
الباخرة “قيصر“ ولائحة المعونات التي لم تصِلْ.

 

في 17 كانون الأَول/ديسمبر 1916، أَبحرت الباخرة من نيويورك مع الإِذن بالرسُوّ في بيروت آخر الشهر، خصوصًا أَن شُحنتَها، المقدَّر وصولها في هذا التاريخ، كانت تحمل اسم "سفينة الميلاد".  

صَلَف العثمانيين
جميع الكتب الصادرة حتى اليوم عن سيرة جبران تَذكر أَنَّ تلك الشُحنة بلغَت خاتمتها السعيدة. لكنَّ الحقيقةَ، للأَسف، هي غيرُ ذلك تمامًا. فالسفينة لم تبلغ بيروت، بل بقيَت تنتظر أَشهرًا في ميناء الإِسكندرية (مصر)، ولم تأْذَن لها السلطات العثمانية بعبور المتوسط. وما حصل أَنَّ قسمًا من الحمولة أَصابه التلَف إِبَّان عبور الأَطلسي، وقسمًا ثانيًا بِيْعَ في مصر، وأُرسِل القسم الثالث إِلى تسالونيكي في اليونان. هكذا، تصديقًا ما سماها المؤَرخون "من أَكبر العمليات الفاشلة في تاريخ الدبلوماسية الغربية إِبَّان الحرب العالمية الأُولى"، لم يحظَ شعبُ جبل لبنان وسوريا بأَيِّ حفنةٍ مما جُمِّعَ وأُرسِلَ لهم من الولايات المتحدة بعد الجهود الخيِّرة المبذولة لذلك. ولكن... بالرغم من هذا الوضع المأْساوي القاسي، تبقى لنا اليومَ من جبران رسالتُهُ النبيلةُ عن الأُخوّة الكونية والحب، في بادرة تضعه في طليعة مَن سماهم نيتشه "الغائبين الأَقل تقديرًا ممن عاشوا حياتهم وقُدِّروا". لكن عظمتهم تبقى في هذا التقصير. 

 

فرنشسكو ميديتشي عند نُصْب جبران.
فرنشسكو ميديتشي عند نُصْب جبران.

 

أنتَ أَخي
في ختام مداخلة فرنشسكو ميديتشي، وتأْكيدًا على معنى إِدراج نصْب جبران في هذا الاحتفال مع أَنصاب مَن كان لهم تأْثير خيِّرٍ على الإِنسانية (الحلقة الأُولى من هذا المقال)، قرأَ فرنشِسكو مقطعًا ترجمَه عن العربية من مقطوعة "صوت الشاعر" في كتاب "دمعة وابتسامة" (نيويورك 1914). جاء في المقطع: "أَنتَ أَخي، وأَنا أُحبُّك مَن تكون وحيثما تكون. أُحبُّكَ ساجدًا في جامعك، وراكعًا في هيكلك، ومصلِّيًا في كنيستك. أَنتَ وأَنا ابْنا دينٍ واحدٍ هو الروح، وزعماءُ فروع هذا الدين أَصابع ملتصقةٌ في يد الأُلوهة المشيرة إِلى كمال النفس. أَنتَ أَخي وأَنا أُحبُّك". 

هذا هو جبران الخالد لكل يوم، وسيبقى خالدًا كل يوم.
هذا هو جبران الذي، كما ذكرتُ في الحلقة الأُولى من هذه الرباعية، تُوُفي ذات يوم (10 نيسان/أَبريل 1931)، لكنَّ ولادته ما زالت تتواصل يومًا بعد يوم، احتفالًا بعد احتفال، وفي بلادٍ بَعد أُخرى.
وبهذا يكون جبران عنوانًا للبنان مضيئًا في العالَم.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/5/2025 7:11:00 PM
مقربون من الأسد لـ"رويترز": الأسد استسلم لفكرة العيش في المنفى
منبر 12/5/2025 1:36:00 PM
أخاطب في كتابي هذا سعادة حاكم مصرف لبنان الجديد، السيد كريم سعيد، باحترام وموضوعية، متوخياً شرحاً وتفسيراً موضوعياً وقانونياً حول الأمور الآتية التي بقي فيها القديم على قدمه، ولم يبدل فيها سعادة الحاكم الجديد، بل لا زالت سارية المفعول تصنيفاً، وتعاميم.
اقتصاد وأعمال 12/4/2025 3:38:00 PM
تشير مصادر مصرفية لـ"النهار"  إلى أن "مصرف لبنان أصدر التعميم يوم الجمعة الماضي، تلته عطلة زيارة البابا لاون الرابع عشر الى لبنان، ما أخر إنجاز فتح الحسابات للمستفيدين من التعميمين
ايران 12/4/2025 7:49:00 PM
واشنطن ترصد 10 ملايين دولار للإبلاغ عن الخبيرة الإلكترونية الإيرانية فاطمة صديقيان المتهمة بهجمات سيبرانية على بنى تحتية أميركية