البحر الأحمر يطلق دورته الخامسة بتكريمات استثنائية وعرض "العملاق"
مهرجان البحر الأحمر السينمائي (جدة)- أحمد عدلي
بدا افتتاح الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي إعلاناً جديداً عن هوية المهرجان ودوره المتنامي في المشهد العالمي؛ إذ اختار أن يستهل دورته بفيلم يتقاطع مع فكرة النشوء والصعود، ويعيد طرح سؤال الإرادة والفرد في مواجهة المؤسسة، تماماً كما يفعل المهرجان نفسه في لحظته الراهنة.
جاء عرض فيلم "العملاق" للمخرج البريطاني روان آثال ليحمل هذا التوازي بوضوح، مقدّماً سيرة الملاكم البريطاني اليمني الأصل نسيم حميد بوصفها حكاية تتجاوز الرياضة إلى تكوين الأسطورة الشخصية وتشكّل الوعي في سياق متعدد الثقافات.

منذ وصول الضيوف إلى مقر المؤسسة الجديد في قلب المنطقة الثقافية الصاعدة في جدة، بدا المشهد مختلفاً عن كل ما سبق، فالمهرجان الذي بدأ في 2021 في صالة موقتة، يقف اليوم على أرض صلبة، محاطاً بنجوم من هوليوود وأوروبا وآسيا والعالم العربي، وحاملاً حضوراً لافتاً لصنّاع السينما المستقلة.
تلك الروح تجلّت بوضوح حين اعتلى أسطورة التمثيل مايكل كين المسرح على كرسيه المتحرك، محاطاً بأحفاده، ليقدّم نفسه للجمهور بخفة ظل وسخرية بريطانية أصيلة، قبل أن يتسلّم تكريماً لسبعة عقود من العمل. ظهور كين بدا لحظة إنسانية نادرة، تجمع بين هشاشة الجسد وثقل المسيرة، بينما تولّى فين ديزل تقديمه بكلمات ملؤها العفوية والحماس، في لقطة تصعب مقارنتها بأي افتتاح آخر في المنطقة.

ورغم حضور أسماء ضخمة مثل كريستين دانست، جيسيكا ألبا، داكوتا جونسون، ناعومي هاريس، أولغا كوريلنكو، وشخصيات سينمائية من طراز رشيد بوشارب وستانلي تونغ، فإنّ الفيلم الافتتاحي هو الذي استحوذ على مركز الثقل الحقيقي.
"العملاق" لا يقدّم سيرة رياضية تقليدية؛ بل يحاول تفكيك ظاهرة نسيم حميد، ذلك الشاب الذي خرج من أحد أحياء شيفيلد ليقلب موازين اللعبة في التسعينيات، بفضل شخصيته اللامتوقعة واستعراضه الطاغي وقوة حضوره في الحلبة.

يقدم أمير المصري أحد أعمق أدواره حتى الآن، متخلياً عن الطابع المألوف لأدوار السيرة التقليدية، ليجسّد شخصية تمزج بين الهشاشة والغرور، وبين طفل يسعى إلى رضا عائلته وشاب يطالب العالم بالاعتراف به. وبموازاة ذلك، يشكّل أداء بيرس بروسنان الذي غاب عن الافتتاح وافتقدته العدسات حضوراً متخيّلاً على الشاشة من خلال شخصية المدرب الإيرلندي بريندان إنغل، الذي لعب دوراً محورياً في تحويل "ناز" إلى ظاهرة لا شبيه لها، العلاقة بينهما هي قلب الفيلم، وقد بُنيت على التضاد والتكامل، انضباط مقابل اندفاع، وقيم تقليدية تصطدم بروح متمرّدة تبحث عن صيغتها الخاصة للنجاح.
اختيار الفيلم لافتتاح المهرجان جاء محمّلاً بدلالات. فعلى مستوى الشكل، يعيد "العملاق" الاعتبار إلى السينما البريطانية التي تُجيد تقديم سير الأبطال الشعبيين، لكنه يذهب في عمقه إلى أسئلة الهوية وما بعد الهجرة، وكيفية بناء الذات في بلد يبحث باستمرار عن تعريف جديد لتعدديته.

وعلى مستوى المهرجان، فإن الفيلم ينسجم مع رؤية المؤسسة التي أكدت، على لسان رئيستها جمانا الراشد، أن السنوات الخمس الماضية لم تُبنَ لتأسيس مهرجان فقط، بل "نظام بيئي" تحتضن فيه المواهب عبر ثلاث قارات، وتُمنح الأدوات اللازمة للانطلاق.
ومن اللافت هذا العام أيضاً الحضور الواسع للنجوم الآسيويين وخصوصاً النجوم القادمين من تايلاند، وتحديداً وين ميتاوين وفايا ماليسورن، اللذين خطفا انتباه الجمهور بمجرد وصولهما إلى السجادة الحمراء، في إشارة واضحة إلى توجه المهرجان نحو جنوب شرق آسيا، ليس كتنوّع بصري وحسب، بل كجزء من جغرافيا سينمائية جديدة يطمح لاحتضانها وربطها بالعالم العربي.

وفي موازاة الفيلم، برزت لحظات إنسانية تركت أثراً واضحاً على الحضور. فتكريم جولييت بينوش مثلاً حمل بعداً وجودياً في كلماتها الهادئة، وهي تتحدث عن معارك الفنان الداخلية، وبينما قدّم فين ديزل خطاباً أشبه باعتراف شخصي بحبّه للمهرجان ورغبته الدائمة في العودة إليه، اختار مايكل كين أن يذكّر بأن كل المجد السينمائي لا يساوي شيئاً أمام دفء العائلة، ذلك التوازن بين البريق والحميمية هو ما ميّز الافتتاح هذا العام.
على مستوى الصناعة، تعمّق كلمات المتحدثين في التأكيد على أن تَحوّل المهرجان بات حقيقة ملموسة، تتجسّد في مقره الجديد، وفي قدرته على جذب أسماء تُعدّ أركاناً في السينما العالمية، وفي برامجه التي تراهن على الجيل الجديد من صناع الأفلام العربيّة والأفريقية والآسيوية، وبينما ازدحمت الردهات بلقاءات عابرة بين نجوم لا يجتمعون عادة في مكان واحد، كانت جدة تقدّم نفسها بوصفها مدينة تعيد تعريف دورها في شبكة المهرجانات الدولية.
نبض