"نور الرياض"… هندسة الضوء التي تربط الماضي بالحاضر
في كل عام، تتحوّل الرياض إلى لوحة ضوئية هائلة تُعيد تشكيل علاقتها بنفسها وبالعالم. منذ انطلاقه عام 2021، أصبح "نور الرياض" أكثر من مجرد احتفال للفن؛ صار لغة جددة تعبّر بها العاصمة عن طموحها المتسارع، وهويتها المتجدّدة، وارتباطها العميق بجذورها. وخلال سنوات قليلة، نجح هذا الحدث في استقطاب أكثر من 9.6 مليون زائر، وحصد 16 رقماً عالمياً في موسوعة غينيس، ليصبح اليوم أكبر احتفال سنوي للفنون الضوئية في العالم.
ومع هذا الحضور المتصاعد، تعود النسخة الخامسة هذا العام من 20 نوفمبر حتى 6 ديسمبر تحت شعار "في لمح البصر"حاملة رؤية فنية تواكب وتيرة التغيير المتسارعة التي تعيشها العاصمة. فالشعار ليس مجرد عنوان، بل انعكاس مباشر لحركة الرياض اليومية، التي تتبدل ملامحها كما لو أنها تُصاغ "في لمح البصر". ويأتي اختيار هذا الشعار مرتبطاً برمز تحوّلي بارز هو قطار الرياض، الذي يشكّل خطاً نابضاً بالحياة يربط أحياء المدينة ببعضها، تماماً كما يربط ماضيها العريق بحاضرها الطموح.
منذ افتتاحه قادت المهندسة المعمارية نوف المنيف، "نور الرياض" التي ترى في المشروع بوابة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتحوّل المدينة إلى منصة تفاعلية تُعيد تعريف علاقتها بالفنون. تقول لـ"النهار" إن الاحتفال جزء أساسي من برنامج "الرياض آرت"، الذي يهدف إلى تمكين التعبير الفني، وإثراء الحياة الثقافية، ودعم الاقتصاد الإبداعي بما يتماشى مع مستهدفات رؤية السعودية 2030.
ولا يقتصر التميّز هذا العام على الشعار، بل ينعكس أيضاً في الرؤية الفنية التي يشترك في صياغتها ثلاثة من أبرز القيّمين العالميين: اليابانية مامي كاتا أوكا، الصيني لي تشينهوا، والسعودية سارة المطلق. هذا التنوع الثقافي يعكس تماماً الدور الذي باتت تلعبه الرياض على الساحة الفنية العالمية، باعتبارها مدينة تجمع الشرق بالغرب، والمحلي بالعالمي، والتجريبي بالتراثي. وتزداد تجربة "نور الرياض" عمقاً من خلال اختيار ستة مواقع رئيسية تحتضن الأعمال الفنية هذا العام: قصر الحكم، مركز الملك عبد العزيز التاريخي، محطة STC، محطة مركز الملك عبدالله المالي، برج الفيصلية، وحي جاكس.
هذا الامتداد الجغرافي ليس تفصيلاً عابراً؛ بل جزء من رؤية تستحضر الماضي وتُجاوره مع الحداثة. فمن قلب التراث العمراني في قصر الحكم ومركز الملك عبد العزيز، إلى أبراج الرياض الحديثة ومراكزها المالية، تبدأ رحلة الزائر بين زمنين يتقاطعان في نقطة الضوء. لكن “نور الرياض” لا يعيش فقط داخل حدود المعمار، بل يمتد ليخلق مساحة من الحوار بين المجتمع والفن. أكثر من 60 فناناً من السعودية والعالم يشاركون هذا العام، حاملين أعمالاً تفتح الباب أمام تفاعل مباشر بين الجمهور والضوء.
ومع كل نسخة جديدة، يواصل "نور الرياض" ترسيخ دوره كمساحة حية تُمكّن الجمهور من اختبار الفنون بطريقة مختلفة. فالاحتفال لا يقدّم الأعمال الفنية كعروض منفصلة، بل كجزء من نسيج المدينة اليومي، حيث يمتزج الضوء مع العمارة والحركة والحياة. هذا الانفتاح على الجمهور، وعلى مختلف الفئات العمرية والخلفيات الثقافية، يجعل من الرياض حاضنة لتجارب فنية تشاركية تتجاوز حدود المشاهدة إلى لحظات من التأمل والتفاعل. كما يبرز دور “الرياض آرت” في بناء منظومة مستدامة تدعم الفنانين وتطوّر المهارات الإبداعية، ليصبح الفن عنصراً فاعلاً في تشكيل هوية العاصمة المستقبلية.
ورش العمل، الجولات الفنية، والفعاليات التفاعلية تمنح الزوار تجربة إنسانية كاملة، تجعل الفن جزءاً من المشهد اليومي لا حدثاً عابراً. الأهم أن الاحتفال لا يقتصر أثره على أيامه فحسب، بل يسهم بشكل مباشر في تعزيز جودة الحياة في العاصمة. فحين يصبح الضوء جزءاً من الفضاء العام، وحين تُقدّم الفنون في الشوارع والميادين للجميع بلا استثناء، تتغيّر علاقة السكان بمدينتهم. تتحوّل الرياض إلى مدينة نابضة بالإبداع، حيث يمتزج الفن بالهواء، ويصبح حضور الثقافة ملموساً في تفاصيل المشي، والتنقّل، والتفاعل اليومي.
نبض