باسم خندقجي يروي لـ"النهار" تحديات الكتابة في السجن ومعاناة المنفى
ها هو ذا باسم خندقجي يعانق السماء بعد واحدٍ وعشرين عاماً قضاها في سجون الجيش الاسرائيلي. بين جدران الزنازين وظلمتها، لم تتوقف أحلامه، ولم تنضب موهبته تحت وقع اليأس؛ فمنحته الكتابة طوق نجاة، وتحول السجن رغم قسوته إلى منعطف آخر شهد اتقاد إبداعه وأوج إنجازاته الأدبية والفكرية، إذ اخترقت نصوصه الجدران والأسلاك الشائكة إلى العالم.
ولد خندقجي في نابلس عام 1983، ودرس الصحافة والإعلام في جامعة النجاح الوطنية، واعتقلته السلطات الاسرائيلية عام 2004، خلال عامه الجامعي الأخير، ليسُجن وهو في مطلع العشرينيات من عمره، ويحُكم عليه بثلاثة مؤبدات؛ بزعم تخطيطه وتنفيذه عملية أمنية في "سوق الكرمل" بتل أبيب. فشبَّ بين العتمة كاتباً وشاعراً وروائياً، وكتب كي لا يُمحى الصوت الفلسطيني من الذاكرة. وصاغ نصوصه التي أضحت لاحقاً علامة فارقة في الأدب الفلسطيني، أبرزها روايته "قناع بلون السماء" الصادرة عن دار الآداب اللبنانية، والتي فازت بجائزة البوكر العربية عام 2024، ويغدو أبرز الأصوات الأدبية الفلسطينية المعاصرة.
"النهار" التقت خندقجي، بعدما حصل على حريته ضمن صفقة تبادل الأسرى، بعد اعتقال دام أكثر من عقدين، وأجرت حواراً حول تجربة الكتابة داخل الأسر، وتحدث عن تحديات إنسانية وثقافية، وكيف يرى هذه المرحلة؟ وما رؤيته للكتابة وللقضية الفلسطينية ولمستقبل تغيّرت فيه الأوضاع والمعادلات؟
* تمثل الكتابة في السجن تحدياً لوجيستياً ونفسياً؛ كيف أمكنك التغلب على ذلك؟
- بمجرد أن يقرر الأسير الشروع بالكتابة داخل السجن، فذلك معناه تحوله من موقع الأسير إلى "المثقف المشتبك"، الذي يحاول الاشتباك مع سجانه ومستعمره الصهيوني، ساعياً عبر الكتابة لاستعادة إنسانيته التي يحاول السجان انتزاعها دائماً. وثمة تحديات جمة واجهتني، أبرزها الملاحقة والمصادرة، لكنني على الصعيد الشخصي قررت خوض غمار الكتابة لصون وتحصين نفسي من مخاطر عدة أهمها، قدرة هذا السجان على اختراق الوعي الفلسطيني.

* وكيف خرجت أعمالك للنور؟
- واجهت مصاعب كثيرة، لكن ثمة طرق عدة لتهريب النصوص يمكن البوح ببعضها، وأخرى لا يمكنني كشفها لأن هناك أخوة لنا مازالوا داخل السجون، لكن أبرزها التهريب عبر الحلويات التي نخرجها إلى أهالينا فنضع الأوراق محلها. بجانب "الكبسولات"، إذ يبتلع الأسير المحرر بعض الأوراق بطريقة معينة ويخرجها معه، فضلًا عن استخدام كاميرات الأجهزة الخلوية.
* تعدّ قناع بلون السماء (الفائزة بالبوكر العربية) نقطة تحوّل في تجربتك الأدبية.. ما الرسالة التي وددت طرحها من خلالها؟
- "قناع بلون السماء" هي بداية لتدشين مشروعي الأدبي الخاص، المتمثل في كتابة أدب "ضد استعماري" في سياق استعماري؛ لذا ركزت على العلاقة بين الفلسطيني والآخر الصهيوني عبر كشف جوانب أخرى بعيدة في الوعي الصهيوني لم تكن واضحة لدى القارئ والمثقف العربي، مبتعداً عن الصورة النمطية التي لطالما كُتب بها في النصوص العربية عن الآخر الصهيوني. لذا تُشكل هذه الرواية بداية لانطلاقة حقيقية في هذا الجانب، وهي جزء من ثلاثية، وطُرح منها في الأسواق حالياً الجزء الثاني "سادن المحرقة"، وسيصدر قريباً الجزء الثالث "فراشات مريم الجليلية".
* تصر على وصف أدبك أنه ضد "الاستعمار" وليس "ضد الاحتلال"، لماذا؟
- لأنه ثمة فرق بين الاستعمار والاحتلال، ونحن كشعب فلسطيني لا نعاني احتلالًا، فلا توجد دولة أجنبية جاءت إلى احتلالنا وسينتهي الاحتلال يومًا ما. أما الاستعمار فهو كائن في فلسطين؛ فنحن نعاني من حالة استعمارية مركبة وفريدة، وهي "الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني"، وهو وضع هجين يزاوج بين نظام الفصل العنصري والنظام الاستعماري. إذ يواجه الشعب الفلسطيني سياسات استعمارية لطالما استخدمتها قوى استعمارية أخرى مثل الاستعمار الفرنسي في السابق. وما يجري لا يعبر بأي شكل عن نجاح لإمكانية خلق دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 بسبب استعمار معظم الأراضي الفلسطينية. وهذا يتطلب أدباً ذا وعي "ضد استعماري"، مثل الأدب في العديد من الدول الأفريقية، فكثير من الكُتاب الأفارقة ومن أبناء المستعمرات الفرنسية السابقة خاضوا هذا الجانب وكتبوا أدبًا "ضد استعماري" عبر تسليط الضوء على سياسات الاستعمار.

* كيف ترى العلاقة بين الاعتقال والأدب والمقاومة؟ وهل تعتبر الكتابة نوعاً من المقاومة، ولماذا؟
- الكتابة داخل السجن هي فعل مقاومة وتحرر وإرادة، وثمة ارتباط بينهم. فنحن في الأدب الفلسطيني لا نملك امتياز كتابة أدب مفعم بالترف والاستمتاع، ولا نكتب أدباً ملتزماً فقط وإنما "أدب مشتبك". وثمة فرق بين أدب المقاومة الفلسطيني وأدب الاشتباك. اليوم، نحاول صك وبلورة مفهوم جديد هو "أدب الاشتباك" الذي من شأنه تسليط الضوء على جوانب جديدة أو كانت غائبة عن الأدب الفلسطيني والعربي، مثل أبعاد الشخصية الصهيونية وتركيبة المجتمع الصهيوني في الداخل الفلسطيني المستعمر، وأيضاً إعلان جبهة ثقافية ضد الأدب العبري الذي لطالما حرص داخل نصوصه على "تغييب" و"تصميت" الآخر الفلسطيني.
* قلت إن الأدب الفلسطيني أمام مرحلة جديدة، برأيك ما التحديات التي يواجهها؟
- أعتقد أن الأدب الفلسطيني يعيش أزمة ناتجة عن أزمة سياسية عامة ومركبة ألا وهي الأزمة الأخلاقية. اليوم نحن كفلسطينيين سواء كنظام سياسي أو كشعب مقبلين على نفق سيكون مظلماً وسنمكث به لبعض الوقت للأسف، لكن لطالما عودنا شعبنا أنه ينهض من بين الركام والدمار. وثمة ضوء في نهاية النفق. ومن ثم فإن الأدب هو حالة أو تمثيل ثقافي لما نمر به من أزمات. ولا أقول إننا مطالبون بتغيير أدبنا الفلسطيني ولكن بتطويره، وينبغي أن يدخل مفهوم "أدب الاشتباك" إلى الثقافة والأدب الفلسطيني خصوصاً والعربي عموماً. هذا الأدب يجري تحديد أبعاده عبر السياق العام، وهي الجبهة الثقافية، ونحن بأمس الحاجة إلى تفعيلها كي نستطيع من خلالها مواجهة الآخر الصهيوني وانتزاع إنسانيتنا من براثن استعماره.
ويأتي تعزيز مفهوم "أدب الاشتباك" عبر اختراق الوعي الصهيوني لكي نفهمه جيداً، وأن نبتعد عن تقديم الصورة النمطية. مع ضرورة أن نقوم بـ "أنسنة الصهيوني" على قاعدة هزمه أخلاقياً. والمقصود من أنسنته هو التعامل معه على أنه إنسان مثلنا، بالطبع هو فاشي ومجرم وعنصري، ولكنه بالنهاية إنسان وليس وحشاً. ونحن لا نستطيع أن نفهم الوحش، لكن يمكننا فهم هذا الإنسان الذي يدعي أن لديه ثقافة ومجتمعاً وحضارة معينة، ويتوجب علينا انتقاد ونقد هذه الثقافة لكي نكتسب المعرفة المضادة لها.
* لكن مصطلح "أنسنته" قد يفهم بشكل خاطئ؟
- "الأنسنة" ليست بمعنى التطبيع. لكن المقصود التعامل معه كإنسان. إذ لا يمكن أن نفهم الغول الذي نخاف منه، ولكن عندما نفهم أن هذا الوحش لديه سيرة وحياة معينة، ويدعي أن لديه مجتمعاً وأفكار اً ومعرفة معينة، يجب أن نقوم بفهم هذه المعرفة. وللأسف، تمثيل الصهيوني في الأدب العربي ضعيف وسيئ وتعيس للغاية. وحتى على المستوى المرئي، دائماً ما تقدم المسلسلات والأفلام العربية الصهيوني بصورة كاريكاتورية سطحية سخيفة جداً، لا يمكننا من خلالها أن نفهمه. لكن وحده "أدب الاشتباك" يمكنه تحقيق القدرة على فهم هذا الآخر واختراق وعيه.

* بعد قضائك عقدين في السجن... ما المعوقات التي تواجه الأسير المحرر؟
- أواجه تحدياً جديداً هو "المنفى". وهو أمر صعب بشدة. صحيح أننا موجودون في مصر العروبة، ونحظى بحفاوة بالغة، واستقبلنا بها الشعب المصري الذي لطالما عودنا على دفئه وحرصه على العلاقات التاريخية مع شعبنا الفلسطيني، لكنني لا أعلم ما هي خطوتي القادمة، وهل سأستقر هنا أم سنذهب إلى دولة أخرى؟ ولا نعرف ما هي خياراتنا كأسرى محررين؛ ما يشكل هاجساً بالنسبة إلي.
* ما خططك المستقبلية على المستوى الشخصي والأدبي والمهني؟
- تراودني أفكار ورؤى عدة ينبغي أن أحققها، أهمها على المستوى الشخصي هو استكمال مسيرتي الأكاديمية، طامحاً إلى نيل شهادة الدكتوراه في جامعة مرقومة، بجانب استكمال أعمالي الأدبية. وخلال الأشهر المقبلة بعدما أشعر أنني ارتحت تماماً، سأشرع باستكمال مشروعي الروائي الخاص بأدب الاشتباك وإنتاج أعمال جديدة.
* هل يمكن أن تمنحنا لمحة عن أعمالك الأدبية المقبلة؟
- كتبت رواية في السجن مؤخراً عن صديقي الشهيد وليد دقة نسجتها في ذهني وليس على الورق، إذ لم يكن متاحاً أقلام أو دفاتر، وأطمح إلى تفريغها قريباً. كما أنني سأنهمك قريباً في كتابة "تاريخ الاستعمار" وأبعاده وأشكاله منذ القدم بطريقة أدبية تدمج ما بين الفكري والأدبي والثقافي.
* كيف أمكنك نسج رواية في ذهنك... ولماذا؟
- خلال العامين الأخيرين، عشنا كأسرى فلسطينيين ظروفاً قاهرة من الجحيم، إذ قاموا بسلب وانتزاع كل مكتسباتنا التي حققناها على مدار تاريخ "الحركة الأسيرة" عبر الإضرابات عن الطعام. وحرمونا من كل الحقوق الأساسية ومنها الأقلام والدفاتر والكتب والملابس وأجهزة المذياع والتلفاز. بالإضافة إلى ممارسة سياسات القتل البطيء ضدنا. فعوضاً عن الأقلام والدفاتر لجأت لاستخدام تقنية ذهنية معينة في الكتابة، وأعتقد أنني نجحت بذلك. إذ أنهيت الرواية عن صديقي وليد أبو دقة قبل التحرر بعشرة أيام، وسأبدأ بتفريغها من رأسي قريباً.
* هل تابعتم تفاصيل العدوان على غزة ومجريات الحرب؟
- كنا نعاني من سياسة العزل والحصار وقطع التواصل.
* ما أكثر لحظة أو ذكرى داخل السجن أثّرت فيك ولم تغب عن ذهنك؟
- ذاكرة السجن مزدحمة بالأحداث، لكن أشد اللحظات قسوة في حياتي هي استقبال خبر وفاة والدي عام 2016، خصوصاً أن علاقتي به كانت مميزة، فهو الداعم الأكبر لي ولكتاباتي وأدبي، ولولا دعمه ما أنجزت شيئاً، وأشعر أنه ليس غائباً، بل دائماً معي يراقبني ويحرسني بحضوره.
* السجن المؤبد دائماً مرادفه اليأس، كيف استطعت الحفاظ على الأمل واستكمال تعليمك ومشروعك الأدبي؟
- تجاوزت ذلك عبر تحدي هذا الحكم منذ اللحظة الأولى، فعندما يكتشف الأسير أنه ربما سيبقى مدى الحياة في السجن، يجب عليه التفكير بخطط وبرامج بديلة، ما يجعله قادراً على الصمود، ويمنحه الأمل والإرادة والإيمان. ومثلت الكتابة طوق النجاة لي، فعندما أكتب كنت أتحرر، ما يمنحني الثقة بأنني سأخرج يوماً ما طال أو قصر الوقت. والآن بعد 21 سنة انعتِقت من ويلات السجن المؤبد.
* كيف كان شعورك عند الخروج... هل راودتك لوهلة صدمة من حجم التغيرات بعد عقدين بعيداً عن العالم؟
- بالتأكيد، حتى الآن أعيش هذه الصدمة، ولا أستطيع إدراك أنني تحررت، فالحرية شيء لطالما حلمت به. وبدأت أكتشف أن الحرية هي ممارسة التفاصيل الصغيرة والاحتفاء بها. ولكن لا أرى أن حريتي اكتملت، فالحرية هي مشروع غير مكتمل، تحديداً في المنفى. ولكن في جميع الأحوال، فقد خرجت من زنزانة إلى فضاء حر نوعاً ما، وأعجز عن وصف هذه المرحلة ولكنني سأقوم بالعمل على سردها وتمثيلها عبر نصوصي خلال الأشهر المقبلة.
* وماذا عن حجم التقدم التكنولوجي سواء الهواتف النقالة أو التطبيقات الذكية؟
- كنا نتابعها لكن دون احتكاك مباشر مع هذه التطورات. وندرك أن ثمة قفزات تكنولوجية ورقمية حدثت، وتلك أحد التحديات التي أواجهها الآن. وتتمثل في كيفية استخدام الهاتف الذكي والتعامل معه، كما أنني لم استعمل الحاسوب للكتابة من قبل، إذ استخدمت الورقة والقلم في كتاباتي. ومن يعرفونني يقولون لي قريباً ستتمكن من إجادة التعامل التكنولوجي والرقمي.
نبض