في حلقة جديدة من بودكاست "مع نايلة"، يروي المايسترو العراقي ليث موريس لنايلة تويني مساراً شخصياً ومهنياً يتجاوز كليشيهات النجاح التقليدية. رحلة تبدأ في بغداد زمن الحرب، وتصل إلى دبي مدينة الفرص، مروراً بأميركا حيث صقلت التجربة ملامح شخصية تجمع بين الفنّ والإدارة، وبين الحسّ الموسيقي ونزعة تأسيس الأعمال من الصفر.

يستعيد ليث طفولته في بغداد بثقة مدهشة لا مكان فيها للنوستالجيا الحزينة. يقول إن نشأته في أسرة فنية ووالد عازف سيمفوني صارم، جعلت من البيت امتداداً لمدرسته. أما المدرسة نفسها، مدرسة الموسيقى والباليه بإشراف روسي، فكانت نموذجاً لانضباط لا يشبه سوى المدارس العسكرية: مناهج يومية، امتحانات قاسية، وموسيقى تُدرّس كما تُدرَّس العلوم.

كانت طفولته "رائعة" رغم الحرب العراقية – الإيرانية، فالعراق يومها، بنسخته التي يعرفها، كان يملك ما يكفي من الحياة ليصنع جيلاً موسيقياً واعياً، حتى لو جاء في بيئة مضطربة سياسياً وأمنياً.

بعد سنوات من الدراسة في العراق، انتقل ليث إلى الولايات المتحدة ليكمل تدريبه الموسيقي. هناك اكتشف معنى الإلهام الذي لم يجده في طفولته: في بغداد، كانت الموسيقى بالنسبة إليه واجباً منهجياً، أما في أميركا فأدرك أن الفنّ مساحة بحث عن الذات. هذا التحوّل جعله يجمع بين الاحتراف الصارم والخيال الحر، وهي المعادلة التي سترافقه لاحقاً في كل مشاريعه.

زار دبي للمرة الأولى في عام 1997، ولم يحتج وقتاً طويلاً ليقرّر أن هذه المدينة ستكون مركز حياته المقبلة. رغم استقراره في أميركا مع زوجته وطفليه، ورغم امتلاكه عملاً ثابتاً، اتّخذ القرار الذي وصفه الجميع بالجنون: الهجرة إلى دبي. باع كل شيء خلال عامين وانتقل نهائياً.

يعترف ليث بأن هذه الخطوة كانت أكثر قراراته جرأة، لكنه لا يندم عليها لحظة واحدة. فمن المدينة الخليجية سيتحوّل إلى رجل أعمال موسيقي، يجمع بين الحسّ الفني والنَفَس التجاري.

نايلة تويني وضيفها ليث موريس.

بدأ مشاريعه في دبي بمكاتب تجارية ومقاهٍ ونوادٍ ليلية، لكن مشروعه الأهم كان تأسيس Brooklyn Melodies Music Center. انطلق المشروع من رغبة شخصية: كان يريد مدرسة موسيقية حقيقية لأولاده، بعد أن خاب أمله في المدارس القائمة.

المدرسة الصغيرة التي بدأها بصفّ واحد امتلأت خلال شهر، لتتحوّل لاحقاً إلى مؤسسة تشمل الموسيقى والباليه والهيب هوب، وتمثّل امتحانات عالمية مرموقة. هذا النمو السريع لم يكن هدفاً في ذاته، بل نتيجة رؤية واضحة: الموسيقى ليست هواية، بل تربية متكاملة.

يرى ليث أن الانسجام مع الجمهور هو معيار النجاح. أما على مستوى الإنتاج، فهو يرفض أن تبقى الموسيقى العربية حبيسة قوالب مكرّرة. يعتبر أن الوقت حان لإعادة توزيعها وتقديمها ضمن توليفات غربية ولاتينية من دون أن تفقد هويتها.

هذه المقاربة جعلت عروضه مساحة لقاء بين الشرق والغرب، وبين المقام العربي والتوزيع العصري، في محاولة واعية لجعل الموسيقى العربية مفهومة ومحبوبة خارج حدود المنطقة.

في رؤيته للتربية، يعود صوت الأب الصارم الذي في داخله. يرفض تماماً فكرة أن يختار طفل في السادسة ما إذا كان يريد تعلّم الموسيقى. بالنسبة إليه، الموسيقى واللغة العربية ركيزتان تربويتان لا تَفاوُض عليهما. "الأولاد يشكرونني اليوم على إصراري"، يقول مؤكداً أنه بدوره يشكر والده الذي فرض عليه الموسيقى منذ الطفولة.

ابناه اليوم يعكسان هذه الفلسفة: البكر طبيب وعازف بيانو، والأصغر مهندس أنهى دراسة الغيتار، وكلاهما مرتبط بالموسيقى على نحو ما.

يدير ليث اليوم 27 عملاً بناها كلها من البداية، من دون أن يشتري مشروعاً جاهزاً، وهو يحب التأسيس، التصميم، والمغامرة. ومع ذلك، لا يعارض فكرة "المال السريع" ما دام أن مصدره قانوني ومدروس. يرى أن الجيل الجديد أمامه فرص رقمية لم تكن متاحة سابقاً، ويشجّع عليها بقدر ما يشجّع على العمل التقليدي.

أما الذكاء الاصطناعي، فيراه مفيداً في الجانب التقني، لكنه عاجز عن خلق "روح الموسيقى" التي لا تنتجها سوى التجربة الإنسانية.

في نهاية الحوار، لا يتردّد ليث موريس في تقييم نفسه بوضوح: داخلياً هو راضٍ بنسبة 90%. خارجياً، يضحك قائلاً إنه راضٍ بنسبة 10% فقط، لأنه يحب الأكل ولا يحب الرياضة. لكنه يؤمن بأن الحياة "حلوة جداً"، وأن الإنسان قادر على تصميمها إذا امتلك الجرأة والخيال والعمل.