حين يفقد الكتاب بيئته… لماذا لا يقرأ العربي؟

ثقافة 21-12-2025 | 12:57

حين يفقد الكتاب بيئته… لماذا لا يقرأ العربي؟

هل تراجع القراءة في العالم العربي كسلٌ فردي، أم نتيجة خلل بنيوي طويل في صناعة الثقافة والمعرفة؟
حين يفقد الكتاب بيئته… لماذا لا يقرأ العربي؟
حين يفقد الكتاب بيئته.
Smaller Bigger

تراجع القراءة في العالم العربي ليس ظاهرة طارئة، ولا سلوكاً فردياً يمكن تفسيره بالكسل أو الانشغال، بل هو نتاج تاريخ طويل من غياب البنية الثقافية، التي يُفترض أن تحتضن الكتاب وتصنع القارئ.

منذ البدايات، لم تتأسس صناعة نشر عربية محترفة قادرة على تحويل الكتاب إلى ركيزة في الوعي العام، بل تشكّلت في فضاء مضطرب اختلط فيه الارتجال بالمحاولات الفردية، وغاب عنه التخطيط الثقافي الذي يمنح المعرفة دوراً اجتماعياً حقيقياً.

هنا يصبح السؤال حول ما إذا كان كسل القراءة ناتجاً عن التحوّل الرقمي أو عن عزوف ثقافي سؤالاً ناقصاً. فالوسائط الرقمية لم تخلق الأزمة، بل كشفت هشاشتها، إذ إن المجتمعات التي تمتلك منظومات قراءة راسخة لم تفقد علاقتها بالكتاب رغم صعود الشاشات، بينما ظهر الضعف العربي بسرعة، لأن القراءة لم تكن يوماً جزءاً أصيلاً من البنية الاجتماعية.

إن علاقة الفرد بالكتاب لم تُبنَ داخل نظام معرفي واضح، بل داخل واقع اقتصادي ضاغط، وتعليمٍ يقدم القراءة كواجب مدرسي، وإعلامٍ يكرّس المحتوى السريع ويهمّش الثقافة. ومع الفوضى التي طاولت صناعة النشر، وتراجع النقد الجاد، وانكماش السوق، أصبح الكتاب العربي منتجاً بلا جاذبية، وفقدت القراءة معناها كفعل يفتح الأبواب ويمنح الأمل.

علاقة لم تُبنَ داخل منظومة واضحة
يعتبر الشاعر والناشر السوري سامي أحمد لـ"النهار" أن ظاهرة كسل القراءة في العالم العربي تبدو امتداداً طبيعياً لمشكلتين مركزيتين رافقتا تاريخ النشر منذ بداياته: غياب بنية مهنية تُؤسس لصناعة كتاب حقيقية، وغياب رؤية ثقافية تُحمّل القراءة دوراً اجتماعياً يتجاوز حدود الترف المعرفيّ. ويرى أنّ "العلاقة بين القارئ العربي والكتاب بُنيت داخل فضاء مهتزّ اختلطت فيه الطباعة بالارتجال، وغابت عنه المؤسسات القادرة على تحويل الكتاب إلى ركيزة للوعي العالم".

من هنا، يُصبح السؤال حول ما إذا كان كسل القراءة ناتجًا عن عزوف ثقافي أم عن التحول نحو الوسائط الرقمية سؤالًا سطحيًا، إذا ما نُظر إليه خارج سياقه التاريخي. فالتحول الرقمي، وفق ما يشير إليه أحمد، ليس العدو الحقيقي للكتاب؛ فالمجتمعات التي سبقتنا في الطباعة، وامتلكت دور نشر محترفة، لم تفقد علاقتها بالقراءة بعد صعود الشاشات. ويتابع:" لأن عادة القراءة كانت جزءًا من بنية اجتماعية راسخة. أما في المنطقة العربية، فقد جاءت الوسائط الرقمية لتُعرّي هشاشة الحالة الثقافية لا لتخلقها. فالقارئ العربي لم يُنشأ داخل منظومة تشجع على القراءة، بل داخل فضاء يعتبر الكتاب ترفًا، ما جعل انحيازه للمحتوى الرقمي السريع أمرًا بديهيًا".

إحباط جماعي ومجتمعي
من جانبه، يشير الكاتب والصحافي المصري عبد العليم حريص إلى أنّ "المشكلة لا تكمن في القارئ كفرد، بل في البيئة التي لم تمنحه فرصة ليكون قارئاً أصلاً". برأيه، "تسبّبت الفوضى، التي ضربت صناعة النشر، من دخول الطابعين وباعة الكتب مجال النشر بلا رؤية ثقافية، بضعف المهنية، وانكماش السوق، وتضارب الرقابة، وفي تحويل الكتاب العربي إلى منتج بلا جاذبية ولا قيمة اجتماعية. وما لم تمتلك صناعة النشر بنية واضحة، فلن يمتلك المجتمع قارئاً مستقراً مهما تعددت المبادرات الفردية".

ومع هذه الخلفية، برأيه، "تصبح مسؤولية المؤسسات التعليمية والإعلامية أكثر وضوحاً؛ إذ قدّم النظام التعليمي الكتاب بوصفه مادة للاختبار".

ويعتقد حريص أنّ الإعلام استسلم لسطوة المحتوى السريع، وترك الثقافة في مساحة هامشية ضيقة. غاب النقد الأدبي الجاد، تراجعت الدوريات الثقافية، وانسحبت المؤسسات من واجبها في رعاية حركة نشر محترفة، فكان طبيعياً أن يولد جيل يرى في القراءة فعلاً لا ينتمي إلى إيقاع حياته اليومية.

تراجع القراءة لصالح التسلية 
بالتالي، فإن كسل القراءة، وفقاً لأحمد، يعدّ شكلًا من أشكال الإحباط الجمعي؛ فالمجتمع الذي يعيش تحت وطأة الرقابة، وعدم استقرار النشر، والضغوط الاقتصادية، وتراجع فرص العمل، يصعب أن ينتج قارئًا شغوفًا. القراءة تتطلب قدرًا من الطمأنينة، ومن الإيمان بأن المعرفة تفتح أبوابًا؛ وهذا الإيمان تراجع في السنوات الأخيرة مع انسداد الأفق العام. وهكذا لم يعد الانصراف عن القراءة مجرد ميل فرديّ، بل نتيجة منطقية لبيئة اجتماعية تخشى الحرية، وواقع اقتصادي يُثقل الحياة اليومية، ومؤسسات ثقافية لم تُبنَ أصلًا بالشكل الذي يؤهلها لحماية الكتاب.

من زاوية أخرى، يشير عبد العليم حريص إلى أن فقدان الثقة بالقيمة العملية للمعرفة جعل القارئ يشعر بأن الكتاب لن يغيّر حياته. فإذا كان المجتمع لا يكافئ التفكير، والمؤسسات لا تحتفي بالنصوص الجادة، وسوق العمل لا يقوم على المعرفة، فمن الطبيعي أن تتراجع القراءة لصالح التسلية السريعة. وهذا التفسير يجعل كسل القراءة مرآة دقيقة لحجم الإحباط الذي يعيشه المواطن العربي، بقدر ما هو مرآة لضعف البنية الثقافية.

وهنا يردف أحمد لـ"النهار" بأنه لا يمكن معالجة كسل القراءة عبر حملات تشجيعية أو مبادرات عابرة، لأن المشكلة لا تكمن في القارئ، بل في البنية التي يُفترض أن تصنعه. فإن أزمة القراءة في جوهرها أزمة نظام معرفي لم يُبنَ يومًا على أسس سليمة. لذلك فإن الحلّ لا يبدأ من الفرد، بل من إصلاح جذري لصناعة النشر، وللمدرسة والإعلام، وللبيئة الاقتصادية والفكرية التي تمنح القراءة معناها وضرورتها. القراءة ليست عادة منعزلة، بل نتيجة طبيعية لبنية ثقافية قوية. وما لم تُبنَ هذه البنية، سيظل كسل القراءة عرضًا لمرض أعمق يعصف بالمشهد الثقافي العربي.

في ضوء هذا المشهد المتشابك، تبدو أزمة القراءة في العالم العربي أبعد بكثير من كونها تراجعًا في العادات أو انعطافًا نحو الوسائط السريعة، بل هي انعكاس لخلل بنيوي عميق طال ثقافتنا ومؤسساتنا ومنظوماتنا التعليمية لعقود. ومع ذلك، تبقى إمكانية التحول قائمة؛ فإعادة الاعتبار للكتاب ليست حلمًا بعيدًا، بل مشروع يمكن أن ينطلق من إصلاح حقيقي في صناعة النشر، ومنهج التعليم، ودور الإعلام، ليمنح القراءة مكانتها الطبيعية في الحياة اليومية. وما بين الأزمة والإمكان، يظل المستقبل مفتوحًا أمام لحظة ثقافية جديدة، قد تعيد بناء القارئ العربي من جديد، إن توفرت الإرادة والرؤية والبيئة التي تستحقّها المعرفة.

 

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 12/20/2025 7:14:00 AM
"من فوق جبل قاسيون"... من هم القادة الذين شكرهم أحمد الشرع بعد رفع العقوبات عن سوريا؟
اقتصاد وأعمال 12/19/2025 7:25:00 PM
سلام: مشروع القانون الهادف إلى استرداد الودائع اعتمد معايير دولية وسيعيد الثقة الدولية بلبنان...
الولايات المتحدة 12/20/2025 1:50:00 AM
تضمنت المجموعة الضخمة من الوثائق سبع صفحات تحتوي على أسماء 254 "مدلكة" تم حجبها بالكامل بحجة "حماية معلومات ضحية محتملة".