ألبير كامو بين شمس الجزائر وعبث الوجود

ثقافة 10-11-2025 | 08:21

ألبير كامو بين شمس الجزائر وعبث الوجود

"العبث يولد من هذا التّصادم بين النداء الإنساني وصمت العالم اللامعقول".
ألبير كامو بين شمس الجزائر وعبث الوجود
ألبير كامو. (لين الجردلي)
Smaller Bigger

صباح صيفي على الساحل الجزائري. ضوء شمس حارّة يغمر بياض ملح مياه المتوسّط. كان ذلك في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1913، في مدينة موندوڤي (لاحقاً الذرعان)، مدينة صغيرة في شرق الجزائر حينها تحت الاحتلال الفرنسي، حيث وُلد ألبير كامو. طفلٌ بحياةٍ مُستعارةٍ وقدرٍ تسرّبت إليه الظلمة باكراً.

طفولة بين البحر والفقر
وُلد ألبير لوسيان كامو لعامل زراعي من أصل ألزاسي، وكاثرين هيلين سينتِس، من أصول إسبانية. ولم يمض وقتٌ طويلٌ بعد مولده حتى اندلعت الحرب، وقُتل والده على الجبهة في معركة المرن عام 1914. تشكّل وعيه بمزيجٍ من الفقدان والغياب؛ وكانت والدته، الأمّية والضعيفة السّمع، ترعاه ضمن أسرةٍ ممتدّة تسكن شقة متواضعة في حي بلكور الشعبي في الجزائر العاصمة، من دون ماء جارٍ، على بُعد خطوات من البحر.

اكتشف الطفل قيظ الصيف الجزائري، وعرق الأرض اليابسة، وصيحات الأطفال على الشاطئ، كما اكتشف لوعة الفقر. وسجّل هذه السنوات الأولى لاحقاً باعتبارها صورة إبداعية لـ"إقليمه الأول".

السلّ والكتابات الأولى
بفضل منحة معلمه لويس جيرمان ودعمه، دخل كامو ثانوية الجزائر. وانفتح على الكتب، الفلسفة، الفكر الكلاسيكي والحديث - أفلاطون، باسكال، نيتشه، وكذلك على الحياة اليوميّة. لكن القدر ضرب موعداً مظلماً جديداً معه، وعام 1930 أصابه مرض السلّ: ضعُف جسد الشاب الذي كان يحبّ الملاكمة والسباحة، وتوقّفت أحلامه الرياضية.

رغم ذلك، لم يتوقّف عن الكتابة. نشر مقالاته الأولى، ارتباطه بالصحافة الجزائرية، وكان يحمل منذ تلك اللحظة مُهِمّةً مزدوجة: أدبية وسياسية. وكان واعياً لعدالة الأمر، للتمييزات الاستعمارية، ولهشاشة الحياة البشرية.

عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، كان كامو في باريس ثمّ في منطقة محتلّة. انضمّ إلى مقاومة فكريّة وأصبح رئيس تحرير الصحيفة السرّية "كومبا". في هذا السياق العالمي المضطرب، صدرت أعمال بارزة مثل "الغريب" (1942) و"أسطورة سيزيف" (1942).

في "الغريب" - التي قدّمها المخرج الفرنسي فرانسوا أوزون أخيراً على شاشة مهرجان البندقية السينمائي، اختلط عبث الوجود، البرود في مواجهة الحياة أو الموت، بتجارب جزائرية عاشها في طفولته: شمسٌ لاهبة، بحرٌ فاتر، شواطئ قد ينقلب فيها كلّ شيء. وفي "أسطورة سيزيف" وضع إحدى الكلمات، المفتاح في فكره: العبث، التوتر بين رغبتنا في المعنى وحياة العالم المتجهّمة.

فيلسوف بلا أيديولوجيا، إنسانيّ صارم
رفض كامو أن يُدرَج ببساطة ضمن فئة الوجوديّين: "أنا لست وجوديّاً"، كان يقول. بالنسبة إليه، الفلسفة ليست نظاماً مُجرّداً ولكن تجربة عيشيّة، كتابةٌ للاختيارات والجروح. ركّز على مفهوم الثورة لا بوصفها تمرّداً أعمى، بل رفض للخضوع للظلم والهمجية. وحملت أعماله توتّراً مزدوجاً: من العبث إلى الثورة، من العزلة إلى الجماعة. في "الطاعون" (1947)، تحوّلت مدينة وهران المحتجزة إلى استعارة عن الحالة الإنسانية: الوباء، التضامن، الموت، الأمل.

ترتكز فلسفته على مفهوم العبث، الذي يعرّفه بأنه المواجهة بين سعي الإنسان إلى المعنى وصمت العالم اللامبالي. رافضاً في آنٍ واحد العدمية والتعزيات الماورائية، شَيّد كامو فكراً يقوم على الصفاء العقلي (la lucidité) والتمرّد. في "أسطورة سيزيف" يؤكد أنّ إدراك العبث لا يقود إلى اليأس، بل إلى شكلٍ من أشكال الحرية: حرية العيش من دون أوهام، بانفتاح كامل على الحياة بكل قوّتها رغم غياب معناها النهائي. وتمتاز فلسفته بما يمكن تسميتها "الإنسانية المأسوية"، إذ تدعو إلى المثابرة على الكرامة والتضامن، وإلى "تخيّل سيزيف سعيداً". وبذلك، طرح كامو أخلاقاً تقوم على الاعتدال والمسؤولية، قائمة على الوفاء للشرط الإنساني، بدلاً من السعي وراء تسامٍ زائف أو وهمي.

الاستعمار والمآزق
الجزائر: أرضُه، مسرح طفولته، وأيضاً مكان التناقضات. كامو، واحد من "الأقدام السوداء" (pied-noir) - رجل من الجيل الفرنسي في الجزائر الاستعماريّة - كاتب فرنسي من الجزائر، وجد صوته في هذا الاغتراب المزدوج. ندّد ببعض مظاهر العنف الاستعماري، ودافع عن جزائر تعدّدية، بينما رفض الحرب بكلّ تطرفاتها.

ذلك الموقف كلفه انتقادات لاذعة: ليس فعلاً في جانب المُستعمِر المنتصر، ولا تماماً في جانب الثورة الوطنيّة التي رآها كثيرون حتمية. ظلّ وفياً لإنسانيته الصارمة، القائمة على حرّية وعدالة لا تنفصلان.

نوبل، العمل الأخير، الموت
في عام 1957، عن عمرٍ بلغ 44 عاماً، نال كامو جائزة نوبل للآداب "لتعبيره الأدبي الحاسم الذي بروحٍ صادقة ومنطقيّة يستنير بمشكلات الضمير الإنساني في عصرنا". أصبح شخصيةً عالميّة، لكنّه بقي رجلاً على الأرض، يقظاً للظلم الذي لا يُمكن تحمله. وفي أواخر الخمسينات، مع تدهور صحّته واستعدادات متكرّرة للسلّ، كان يعمل على روايته "الرجل الأول"، وهي عمل غير مكتمل، تُجسّد ذاكرة الجزائر، وتُعدّ تحيّةً لأمّه، وأثراً من جذوره.

في الرابع من كانون الثاني/يناير 1960، وعلى طريقٍ جليديّ في منطقة بورغونييه الفرنسية، اصطدمت سيارة من طراز "فاسيل فيغا" كانت متجهة إلى باريس بشجرة بلّوط ضخمة. كان خلف المقود الناشر ميشيل غاليمار، وإلى جانبه كامو. في جيب معطف الحائز على نوبل، وُجدت نصف تذكرة قطار. كان ينوي في البداية العودة بالقطار مع زوجته وأطفاله، لكنّه في اللحظة الأخيرة قَبِل دعوة صديقه. لفتة بسيطة، شبه عادية، لكنها كانت كافية لتختم مصيره.

عثر المسعفون بين الحطام على حقيبةٍ تحتوي على المخطوطٍ غير المكتمل لـ"الرجل الأول". نجا من المخطوط المحترق نصفه... أمّا صاحبه فلم ينجُ. مفارقة مأسوية: الرجل الذي جعل من "العبث" فلسفةَ حياة، لقي حتفه في أكثر الميتات عبثاً صاعقاً في السادسة والأربعين من عمره، من دون سبب، على طريق مستقيمٍ وخالٍ من أيّ خطر. كتب كامو يوماً أنّ "العبث يولد من هذا التّصادم بين النداء الإنساني وصمت العالم اللامعقول".

بقي صوته يُردّد "في قلب الشتاء، اكتشفتُ أن فيّ صيفاً لا يُقهَر". أعماله، المؤلّفة من بحار جارفة، مدن مشوّهة، وجوه عاديّة، تدعو دوماً إلى تلك الثورة الواعية. وحتى اليوم، في عالم يعود فيه عبثيّته تتّخذ أقنعة متنوّعة وجديدة، يبقى كامو مرجعاً ورفيقاً: ذاك الذي نعود إليه ونلتقيه بين كتاب وآخر، في تفصيل حياتي وآخر، والمفكّرة في أيدينا، مستعدّين للرصد، وللسؤال.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 11/6/2025 2:49:00 PM
يقاطع التيار الصدري، أحد أكبر التيارات الشيعية في البلاد، الانتخابات ما يجعل المشهد السياسي أمام احتمالات جديدة لتوازن القوى داخل المكونات الثلاثة: الشيعية والسنّية والكردية.
العالم العربي 11/7/2025 6:00:00 AM
مهمة اختيار رئيس الوزراء المقبل ستكون شديدة التعقيد في ظل استمرار الانقسام داخل البيت الشيعي.
العالم العربي 11/7/2025 6:00:00 AM
معركة الصناديق التي ستُفتح الثلاثاء ستفتح بدورها معركة أوسع وأشمل بعد تبيان النتائج.
العالم العربي 11/7/2025 3:10:00 AM
مواكبةً لهذه الانتخابات المفصلية في تاريخ العراق، تفتح "النهار" ملفاً عنوانه "العراق ينتخب: صراع الولاية الثانية"، تقدم فيه قراءة استشرافية لما هو متوقع في دولة تريدها طهران دائماً حديقة خلفية، وتريدها واشنطن أبداً رأس حربة.