"الشارقة الدولي للكتاب": فصلٌ رابعٌ وأربعون من المجد الثقافي
44 دورة. 44 موعداً مع الثقافة. لم يعد معرض الشارقة الدولي للكتاب موعداً سنوياً للقراءة، ولكن طقساً من طقوس الاحتفال بالكلمة وتكريمها. في المدينة التي اختارت منذ عقود أن تبني مجدها بالحبر بالقصص الملهمة، تتلاقى الحضارات؛ ويعود المعرض ليذكّرنا بأن ما بيننا وبين الكتاب علاقة حيّة تتنفّس وتكبر معنا، شعارها هذا العام: "بينك وبين الكتاب".
في "إكسبو الشارقة" ينساب نهر من الزوّار من خلفيات وأعمار مختلفة، يسيرون في مجرّةٍ من الحروف، في واحدة من أكثر التجارب الأدبية نجاحاً إلهاماً. 118 دولة اجتمعت في مكانٍ واحد، تتحدث لغاتٍ كثيرة وتتفاهم بلغةٍ واحدة: الكتاب. أكثر من 2350 ناشراً وعارضاً من أنحاء العالم حملوا ملايين العناوين إلى هذه المدينة الموقّتة، الممتدّة على مدى اثني عشر يوماً من الخامس حتى السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر.
في قلب كل هذا الضجيج الهادئ، عالم كامل من الاكتشاف؛ من جناحٍ يفيض بألوان الحروف اليونانية إلى آخر يحمل نكهة الأدب اللاتيني، ومن زوايا الشرق حيث العربية تكتب بلون الرمل والسماء، إلى أروقة الغرب حيث تتحدث الروايات عن المدن البعيدة والخيال اللامحدود.
آلاف الفعاليات واليونان ضيف الشرف
ولأن الشارقة تعرف كيف تختار رموزها، كانت اليونان ضيف الشرف لهذا العام، بأناقتها الفكرية وألقها الحضاري. 58 دار نشر ومؤسسة ثقافية يونانية قدّمت للعالم العربي وجهاً حديثاً لأمةٍ كانت أول من علّم العالم معنى الكلمة والفكر. بين أروقة الجناح اليوناني، يلتقي هوميروس وسقراط وأوديسيوس في مشهدٍ ثقافيٍّ يعيد وصل الحاضر بالماضي، في مساحة تمتد 200 متر مربع وتضم أكثر من 600 عنوان. هنا، تُعرض الرحلة الطويلة للأدب اليوناني من الأسطورة إلى المعاصرة، ومن الحبر إلى الفلسفة.
حين تقول الشارقة إنها "مدينة الكتاب"، فالأرقام تصدّقها: أكثر من 1200 فعالية تُقام في أروقة المعرض، يشارك فيها 250 مبدعاً وأديباً من 66 دولة. البرنامج الثقافي وحده يضم 300 فعالية يشارك فيها 66 ضيفاً عالمياً و62 عربياً و30 إماراتياً، فيما تحتفي المنصة لأول مرة بعشر دول جديدة تنضم إلى فضاء المعرض، من بينها أيسلندا، نيجيريا، جامايكا، وفييتنام.
وعلى الجانب الآخر، يمتد برنامج الأطفال بورشٍ وتدريباتٍ وإبداعاتٍ لا تنتهي: 750 ورشة عمل يقدمها 28 ضيفاً من تسع دول، إلى جانب 85 عرضاً مسرحياً وغنائياً، تملأ القاعات بالضحك والموسيقى والدهشة. إنّه المهرجان الذي يُشبه الطفولة الفضولية والبريئة، حيث الخيال يتكلم.
إبداع يتجدد في كل ركن
بين جناحٍ وآخر، تظهر المفاجآت. في "صيدلة الشعر" يمكنك أن تطلب وصفة شعرية كما لو أنك تطلب دواءً لحواسك وعواطفك. وفي "أكاديمية التواصل الاجتماعي بوب أب" تُعقد 24 جلسة يقودها مؤثرون وخبراء يفتحون أبواب الأدب والفن والإعلام والتكنولوجيا على آفاق جديدة.
أما "محطة البودكاست"، فمسرح حيّ للأصوات، تستضيف برامج من السعودية والإمارات وسلطنة عُمان، في حواراتٍ تلتقط روح العصر وتنشرها على موجاتٍ رقميةٍ نابضة بالحياة. وفي ركن الطهي، تمتزج النكهات بالكلمات عبر 42 فعالية يقدمها 15 طاهياً من 14 دولة، لأن الثقافة لا تكتمل إلا حين تتذوقها.
مدينة من ضوء وكلمات
شعار "بينك وبين الكتاب" وعدٌ بأن تجد في كلّ جناح ما يُشبهك، وفي كلّ كتاب مرآةً لذاتك، وصدى لأسئلتك، ونافذةً على عوالمك الداخلية. الكتاب هنا لا يُباع ويُشترى، بل أسمى: تجربة تُعاش وتستحق أن تتوقّف أمامها وتكتشفها. في هذا المكان، احتفال جماعي بالمعنى والدهشة والاكتشاف.
حين تغادر القاعة في المساء، تعبر زمناً إلى آخر. الأضواء تنعكس على الواجهات الزجاجية لـ"الإكسبو"، وأصوات القرّاء تمتزج بموسيقى العروض والمناقشات. كل شيء هنا يهمس بأنّ الشارقة تواصل كتابة فصل جديد من تاريخ الثقافة العربية والعالمية، بينما تحتفل بقرنٍ على تأسيس أول مكتبة فيها، و"بتاريخٍ ثقافيٍّ طويل أضاء طريق أبناء الإمارة والعالم العربي بالمعرفة والعلم"، على ما قال حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، محتفياً بالمشروع الثقافي الذي كرّس له عمره والإمارة التي نذر نفسه لخدمتها، والثقافة التي كرّس حياته رافعاً رايتها.
معرض الشارقة الدولي للكتاب يتخطّى وصف "التظاهرة الثقافية" ليُرسّخ نفسه وعداً متجدداً بين الإنسان والكتاب، وبينه وبين المعرفة. وهنا، في هذا اللقاء العظيم بين الحضارات، تُثبت الشارقة مرةً أخرى أن الكلمة ما زالت قادرة على جمع العالم، كلّ العالم... بين غلافين.
نبض