غونكور 2025 تعُيد الرواية الفرنسية إلى أصولها التليدة

ثقافة 05-11-2025 | 20:27

غونكور 2025 تعُيد الرواية الفرنسية إلى أصولها التليدة

تشدّنا متانة لغة لوران موفينييه، ونصاعةُ بيانه، وانسيابُ سرده من النبع الكلاسيكي لآبائه الروائيين المؤسسين.
غونكور 2025 تعُيد الرواية الفرنسية إلى أصولها التليدة
لوران موفينييه ممسكاً بروايته وقد زنّرها شريط "غونكور" الأحمر. (أ ف ب)
Smaller Bigger

غرقت الرواية الفرنسية في السنوات الأخيرة في البحيرات الراكدة، والآسنة أيضًا، للحميمية والاحتلاب المفرط، بل والمُسِفّ للحكايات والسّير الشخصية، أغمضت العين عن المجتمع، وكادت تشيح كليًّا عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمصيرية لبلد في ذروة الأزمات. نجم عنه على مستوى الشكل الفني تدحرُج الرواية من عوالمها الموضوعية الصلبة، إلى صعيد ما يسمى تجنيسًا "التخييل الذاتي"، نوع من السيرة الذاتية المموّهة والمنقحة بالتحوير والتخيّل. وإذا كان مسلّمًا به أن الأدب تعبيرٌ ذاتي، فإن فنّ الرواية وهو بوصلته، بؤرته الواقعيّ والشامل.

روايات الموسوم الأدبي الفرنسي الجديد لهذا العام جاءت لتعيد التوزان المختلّ بين الذاتي والموضوعي، من غير أن تتخلى عن مركزية الأنا الساردة، وإعادة سرد وتشخيص وتبئير الحياة والمجتمع والتاريخ والزمن من منظورها. انتظمت جلّها حول محور العائلة ببطولة الأم وتيمة الأمومة، وبالطبع، المرأة هي الشخصية العماد، وهي التي تصدرت قائمات الجوائز الأدبية لهذا العام فارضةً تيمتها على القراء، وعلى السوق، ومتجاوبةً مع المزاج العام.

تقع "الدار الفارغة" (La Maison vide) للوران موفينييه في صدارة هذه النزعة؛ جسّدت أبرزَ وأنضجَ خصائص الروائية للحاضر متمثلةً لسُننها الجمالية التليدة. في نهاية السباق نحو الفوز بجائزة "غونكور"، أرفع تقدير أدبي في فرنسا (قائمة الأربعة النهائية)، بدا موفينييه متقدمًا بأشواط على منافسيه، بالرغم من ترويج الصحافة الأدبية لاسم إيمانويل كارير وترجيح روايته "كولخوز" (ستوك) للفوز اعتمادًا على شهرة بطلتها أمه الراحلة أمينة سر الأكاديمية الفرنسية، وعلى صيته الإعلامي. لم تكفِ المزايدات لحجب مكانة "الدار الفارغة" من حيث نسبة المبيع المرتفعة منذ عرضها مطلع أيلول/سبتمبر، والتنويه المبكّر بقيمتها الأدبية من لدن منابرَ ونقاد نابهين، وذائقة أدبية فاحصة اجتمعت في الأخير في اختيارها من قِبل لجنة الـ"غونكور" وتتويجها بجائزتها بمعايير أعضائها العشرة الراسخين في ميدانهم بمنأى عن السّجال والتبخيس ونادرًا جدًا ما تعرف الاعتراض، ما تفتقر له الجوائز العربية التي كلّ عام في شأن.

 

لوران موفينييه ممسكاً بروايته وقد زنّرها شريط ”غونكور” الأحمر. (أ ف ب)
لوران موفينييه ممسكاً بروايته وقد زنّرها شريط ”غونكور” الأحمر. (أ ف ب)

 

لوران موفينيي (مواليد 1967) بروايته الفائزة يتوّج مسيرةً أدبيةً من ثلاثة عقود دشّنها بقوة بصدور روايته "Loin d’eux" عام 1999 التي فازت مباشرة بجائزة "فينيون"، وتوالت إصداراته منذئذ بلغت أربعة عشر رواية انتهاء بالأخيرة، بانتظام عن دار نشر واحدة "Minuit"، وهذه للتذكير مدرسةٌ روائيةٌ منذ خمسينات القرن الماضي هي التي تبنّت أعمال ألان روب غرييه وصحبه ممن نظّر لهم وسموّا تيار "Le nouveau roman" (الرواية الجديدة). فهو، إذن، سليل أسرة عريقة في الرواية لا طارئًا متسلِّلًا، ومن يرجع إلى أعماله يجدها نهجت خطًا تصاعديًا وتركيبيّا لهمومه الفردية مع المحيط الذي تربّى فيه بجذوره وامتداداته التاريخية. وبما أنه خريج مدرسة الفنون الجميلة، فإنّ صنعة التشخيص وقيمة الجمال قاداه إلى الرواية، وكذلك إلى المسرح بنزعته الحوارية، لذلك تتظافر في كتابته أساليب وطرائق ببلاغة دامغة.

لا مناص من الاختزال المتعسّف للتعريف برواية من 743 صفحة من البُنط الصغير، تمتد زمنيَّا أفقيًّا قرابة قرن، وتشغل أزيد من نصفه حدَثيًّا وعموديًّا. حكاية عائلة فرنسية إليها ينتمي الرواي(= العليم) حين يعود ذات سبعينات (1976) إلى الدار التي بنتها وعاشت وتناسلت وتسلسلت أجيال، وبجوارها عائلات وأنوية اجتماعية وأنماط حياة زراعية واقتصادية، صورة مصغرة عن فرنسا من نهاية قرن إلى منتصفه وهي تخوض بأجيالها وضحاياها حربين عالميتين. يعمد موفينيي، شأن شعراء الجاهلية العرب، إلى الوقوف على الأطلال، ومثل طرفة بن العبد في مطلع معلقته "لخولة أطلال ببرقة تهمد/ تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد"، يشرع بُغية معرفة الدار وبعث من عاش وما كان مليئًا صاخبًا بأنشطة الحياة مزدهرًا ومتعدد المصائر والأهواء، بالبحث المضني في دواليب وجواريرها عن ميدالية ووسام نالهما جد خلفي (Jules) له، لتبدأ القصة، حبكتها، مع الجدة الثانية البعيدة، Marie Ernestine ابنة المزارع ملاك الأراضي جده الأبعد Firmin Proust صاحب السلطة المطلقة على أسرته ومستخدميه لا يُعصى له أمر بما فيه قرارُه تزويج ابنته إلى (جول) مساعده الأول، هي عمدته وزهوه بعد أن خيب ولداه أمله، واحدٌ اختار سلك الرهبانية، والثاني ترك حياة الريف إلى باريس يعمل في الملاهي. لكن ماري بدوره ستعصاه. فبعد أن تعب على تعليمها سنوات في الدير، واقتنى لها بيانو غالي الثمن، وظن أعد لها الزيجة المثالية، خيبت أمله ونشزت، ثم انصاعت أخيرًا وهمُّها العزف، مجافيةً دومًا زوجها.

 

لوران موفينييه الفائز بـ”غونكور” 2025. (أ ف ب)
لوران موفينييه الفائز بـ”غونكور” 2025. (أ ف ب)

 

عقب وفاة الأب فيرمان سيُجنّد في الحرب العالمية الأولى وفيها يموت لتخلوَّ الدارُ من الرجال وتبقى في عهدة الأم الأرملة وابنتها ماري تتحملان مشاق تسيير الأرض والأملاك في عيشة كئيبة، ستزداد سوءًا بمتاعب علاقة ماري المتوترة بابنتها مارغريت الجدة الأولى للراوي - الكاتب، التي ستقترن بأندري من سيذهب بدوره إلى الحرب (الثانية) تحاول مارغريت لفكّ أسره من الألمان فتتورط في علاقة مع ضابط ألماني، وبعد نهاية الحرب تلقى العار والنبذ وتنعزل في الدار وتدمن الخمر بعد أن انتُزع منها ولداها إلى أن تموت وينتحر الزوج أندري في حادث غامض، هو جدّ الراوي، يروي أبوه نُتفًا فقط من تاريخ العائلة، ويتولى هو جمع أطراف "البازل" المبعثر، وقراءة الوشم في ظاهر الدار بخط الرواية.

هي إذن رواية أجيال (أربعة) وتاريخ فرنسا منذ النابولونية إلى عتبة الستينات، وخصوصًا من 1913 - 1956 مجرى السرد، من بؤرة عائلة، في بيئة ريفية على تماسّ مع مدنيّة تستجدّ، وعالم صُعُدًا يتغير، تعترك فيها الأهواءُ الفردية بالمصير الجماعي، تخترقها سهامُ المأساوية، والتاريخ يستمر، والدار بمعالم الخراب والبلِى شاهدٌ على ناس ومجد وُجدا وانهارا وهي باقية. سنتذكر ولا شك أميل زولا (1840 - 1902) بروايته الجيلية "Les Rougon-Macquart" ووليم فوكنر (1897 ـ 1962) إليه يميل موفينييه كثيرًا، ولكن ستشدنا أكثر متانة لغته، ونصاعةُ بيانه، وانسيابُ سرده من النبع الكلاسيكي لآبائه الروائيين المؤسسين. يعنيني تحديدًا لحمُه وصهره لأساليبَ وطرائقَ في السرد بين الوصف والتشخيص والاسترجاع واللعب بالأزمنة ومزج الواقعي بالفرضي والعكس، فهو أعاد بناء عالم من خراب برؤية مغايرة، لذا هو روائي.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/4/2025 6:56:00 PM
شقيق الضحية: "كان زوجها يمسك دبوسا ويغزها في فمها ولسانها كي لا تتمكن من تناول الطعام".
ثقافة 11/2/2025 10:46:00 AM
"والدي هو السبب في اكتشاف المقبرة، وكان عمره وقتها 12 عاماً فقط سنة 1922."
لبنان 11/3/2025 11:23:00 PM
الفيديو أثار ضجة وغضباً بين الناشطين، حيث اعتبر كثيرون أن استخدام الهواتف والإضاءة الساطعة داخل هذا المعلم السياحي يؤثر على السياح هناك.
لبنان 11/4/2025 8:47:00 AM
دعت هيئة قضاء جبيل القوى الأمنية المختصة إلى التحرّك الفوري واتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاسبة الفاعلين